الأدب السوداني يفتقر كثيرًا إلى الركائز الأساسية للمعرفة، ليضاهي عالمية الأدب في فن الرواية والقصص- رغم ذاك الافتقار البين الواضح، جاءت بعض الروايات قوية فاقت الأدب الإقليمي المجاور، لكنها لم تجد المكانة العالمية لضعف النشر والاستهلاك – إن صح التعبير.
فالقصد من الاستهلاك هو انخفاض معدل بيع الروايات والقصص وكساد سوقها داخل سوداننا الحبيب، ويعزى ذلك أيضاً لضعف الاطلاع والتثقف، فلم يجد الراوي أو القاص ريعاً أو ربحاً ليبذل جهداً للخوض في تجربة لا تنجح (من جرب المجرب حلت به الندامة).
رغم أنف تلك التحديات، جاءت رواية “حفريات ذاكرة الحوت” للأديب السوداني د. محمد عثمان الجعلي، كرواية عالمية قفزت فوق هامة المستحيل لتكتب خلود الرواية السودانية وتسجل رقماً قياسياً لجودة العمل والضبط الرائع للناتج الروائي والقصصي، تحدياً للعقبات وتجاوزاً للعائقات وعدم النظر للعائدات المادية، فكان جمال الرواية، وروعة الحكاية وسر الخلود في حبك وسبك القصة التي فاقت الخيال، في نص حاز الكمال.
رواية (حفريات ذاكرة الحوت)
رواية ممتعة شيقة بمذاق سوداني أصيل وطعم إفريقي جميل في حقبة جميلة من تاريخ السودان كانت الأحداث عاصفة في الثلاثينيات والأربعينيات
زمانها كان قبيل الاستقلال، مكان الرواية كان مدينة الخرطوم بحري، تحديداً في الديوم والدناقلة وحلة حمد وحلة خوجلي والأملاك وحي السوق في تلك المنطقة كانت أحداث تلك الرواية الشيقة..
اختار الراوي أماكن ذات خصوصية وتميز غريب وعجيب!
حيث امتزاج كل الأعراق ودخول كل الأعراف لربوع مدينة بحري الجميلة..
استطاع الراوي أن ينقل الزمان إلينا كأننا فيه وانتقل المكان بيراعه الأنيق إلينا كأننا عليه..
ووصف الشخوص كأنهم منا وفينا أو كأنهم معنا حقيقة لا خيالاً.
اختار الكاتب (آل الطاهر) كأسرة سودانية انتقلت من مصر إلى أوطانها بعد أن عاشت فترة هناك فتغيرت أحوالها وتبدل نمط حياتها، لتجد واقعاً غير واقعها القديم، وخليط من الناس حولها، بثقافات مختلفة تحاول الالتحاق بالركب الحضاري الجديد في ظل الاستعمار المهيمن عليها..
إن كانت السمات النفسية لبطل القصة تحمل جينات الفساد والفسوق، فهناك أيضاً جينات وراثية أخرى تظهر فيها الشجاعة والشهامة والنخوة، ظل البطل في نزاع بين الخير والشر متنقلاً بينهما في تفسخ وتعهر تارة، وفي التدين والزهد تارة أخرى، حتى نهاية الرواية
في حبك وسبك روائي رائع وفي سرد قصصي شيق. قفز الكاتب إلى قمة العطاء الأدبي ليقدم فناً جديداً جميلاً.
توغل الكاتب في اللهجة السودانية حتى الثمالة على لسان الشخوص والأبطال وسرد الفصحى حتى تخاله امتلك مقود اللغة العربية دون منازع، وأبدع في التصوير كأنه آلة فتوغرافية للتصوير الدقيق للأشخاص والأماكن بلغة عالية الذوق سليمة المعاني.
أدخل الكاتب الروعة والحلاوة في لهجة النساء فأتى بلهجتهن كأنه يحمل آلة تسجيل خطيرة في مجلسهن، فكانت مفردات النساء مفردات خاصة ذات طابع مميز في الرواية تعطيك المتعة والتشويق، كأنك معهن في مجلسهن.
أجاد الكاتب لغة السوق والسوقة. أدخل مفردات لم تدخل من قبل في الرواية السودانية إلا بمعية الأديب الألمعي الطيب صالح، فكانت ملح الراوية وطعمها الجديد ولونها الرائع الفريد.
تمكن الكاتب من سرد حقائق تاريخية توارت أكثر القصص خجلًا من ذكرها فتراءت لنا واضحة في روايته حيث أغفلها التاريخ وضمُرت في نفوس الأجيال سراً وضغينة تحملها تلك الأجيال كوصمة عار في جباهها..
الرواية رسمت الجانب التاريخي والاجتماعي والسياسي بوضوح مفضوح لتلك الحقبة حيث كان التدين صفة نادرة في ذاك الزمان.
كاتب الرواية الدكتور محمد عثمان الجعلي رحمه الله رحمة واسعة، كان موسوعي المعرفة غزير العلم بحر زاخر بتاريخ الأمة، قدم للأدب السوداني أجمل رواية عرفتها الأجيال، كتب لنفسه الخلود في دنيا الأدب والفنون، ونقل لنا صفحة التاريخ بفنونها وجنونها ومجونها، وصور لنا الأشخاص بشجونهم وظنونهم بطبقاتهم الاجتماعية المختلفة والمؤتلفة ..
رحم الله الأديب الأريب الحبيب محمد عثمان الجعلي وجعل الله هذا العلم النافع في ميزان حسناته يوم القيامة.
والله المستعان