في نقاشٍ ليس بعيداً مع شبابٍ من البعثيين، بعد حادثة/كارثة فضّ اعتصام القيادة، كان شباب البعثيين يصرّون على إقناعي بانَّ الديمقراطيّة بشكلها الذي جرتْ به في ثمانينات القرن الماضي “لا نريدُها”. كان منطقهم بأنَّ الشعب السُّوداني في الأرياف لم يحسنْ، بعدُ، معرفة مصلحته في اختيار من يمثّله. قد ينخدع بالكلام المهندم من بعض الأوباش، أو ينساق – كالشياه – بسوط الزّعيم التقليديّ، كان شيخَ طريقة، عمدة أو ناظر. لذلك لابدَّ من حملاتٍ مكثّفة، قد تستغرقُ سنينَ عدداً لتوعية الشّعب السُّودانيّ، قبل إجراء أيّ انتخابات عامّة. حسناً… “مَن سيحكم طوال هذه السنين؟ ومَن سيقومُ بعمليّات التوعية لهذا الشعب المسكين الجاهل؟”. كان هذا سؤالي. ستواصلُ الحكومة الانتقاليّة هذه، وسنقومُ نحنُ بتوعية الشّعب. وإذا حدث ذلك، ولمْ يقُمِ الشّعبُ الجاهل بالاختيار الصّحيح، فماذا ستفعلون؟ هل ستعيدون الانتخابات؟ هل ستلغون النتائج – مثلاً – إذا جاءت بالاتّحاديّ / مولانا الميرغنيّ وآله، والأمّة/ سيديّ الإمام، عليه رحمةُ الله، وآله؟
شباب البعثيين كانوا يقطعون بأنّه بعد عمليّات التوعية لن يصوّت أحدٌ لحزب الأمّة، ولن يفوز حزب مولانا الميرغنيّ. لا مشكلةَ في ذلك. لكنْ بعد عشرين عاماً، وليس من قبيل المبالغة، سيفوز مولانا الميرغنيّ في شرق السُّودان. شئتم أمْ أبيتم. ذلك منطق الشّرق وتكوينه المعقّد. فمذكّرات عثمان دقنة، أنّه وقبل أكثر من مائة عام، كان الشّرق يقوم ويقع على إشارة السّادة المراغنة. لم تستطعْ المهديّة بكلّ سطوتها أنْ تفتح سواكن. ولم تتمكّن من الشّرق. ثمّ إنَّ الأمر ليس رهيناً بوعيكم – كبعثيين، وكشّباب. الأمرُ أكثر تعقيداً. لن أخوض في إيمان البعثيين بالدّيمقراطية من عدمه. لن أخوض في تجارب البعثيين في “التداول السّلميّ للسلطة”. ذاك نقاشٌ أكبر من يخوضه العاقل مع شباب، وبعثيين، دعكْ من أي شئ آخر.
ما استطعتُ أنْ أفهمه من حوادث ونقاشاتٍ متفرّقة هنا وهناك، هو أنّ الفترة الانتقاليّة لا عمر محدّد لها. وأنَّ النّاظر للانتخابات كمنْ ينتظر “حمل العجائز”، كما تقولُ والدتي، مدَّ الله في أيّامها، وألبسها لباس العافية التقوى، وزيّنها بزينة أهل الجنّة. الخطوات والدّلائلُ تشير إلى أنَّ ثمّة تواطئاً على أنْ تتثاقلَ خطواتُ الانتخابات، حتّى لا تأتي بمنْ “ليس نحن”. ذلك يروق للبعثيين بأصنافهم، للشيوعيين، للجمهوريين، للنّاصريين، لليبراليين والليبراليين الجُدُد. لأنّهم لن يشكّلوا أغلبية في أيّ دائرة جغرافيّة، ولو انطبقتِ سماءُ السُّودان على أرضه. ربّما سيقعُ ذلك موقعاً حسناً من نفوس العسكريين، الذين لا يخطر لهم ببالٍ أنْ يفارقوا بريق السّلطة ويسلّموها “مدنيّةً كاملة الدّسم”. صرّح مبارك الفاضل، قبل أسبوعين بأنَّ تطويلَ أمدَ الانتقاليّة ستكون له عواقبُ وخيمة. لم يُعِرْ تصريحه أحدٌ اهتماماً. وذلك طبيعيّ.
الخطواتُ المقبلةُ مع عبد العزيز الحلو، وعبد الواحد محمد النّور، ربّما ستجئ بخيار العلمانيّة، وتطويل أمدَ الانتقاليّة. من جهةٍ ستضمنُ بقاء الممسكين بمفاصل البلاد، تحتَ دعاوى ترسيخ السّلام، وإعطائه الأولوية. ومن ثمّ العبور بالبلاد إلى برّ الأمان الذي يتحدّثُ عنه شباب البعثيين، الذي هو انتخابات ليست على الطّريقة التقليديّة. العارفون يفهمون أنَّ الصفقات تمّتْ، أصلاً. ما يجري هو سيناريوهات ممكنة لتكون مقبولة فقط، ولا غبار عليها. والأيّام القادمة – وليس السنوات – ستكشفُ ما أشيرُ إليه، من ديمقراطية البعثيين، والتي هي نسخةٌ إنقاذية معدّلة. ستعمل على مصادرة الآخرين/ الرّيفيين وغيرهم في حقّهم في اختيار من يمثّلهم. وتلك وصاية لا يمكنُ لأيّ “طليعيّ” أو “تقدّميّ” القبول بها. بل هي ديكتاتوريّة في زيّ شباب لطفاء، حسنيّ المظهر، لغتهم مثقّفة، و”دّاقين سيستم”، كمان.