عبد الحفيظ مريود يكتب.. أوهامٌ كبيرةٌ
يتغذّى الوهم على الوهم. هذه حقيقة تُشبهُ مقولة الجنرال عبد الرّحيم محمّد حسين “الفشل لا يولّد إلّا الفشل”. لا أدري لماذا تعاملَ معها الجمهور على أنّها بعضُ غباء الجنرال. مع أنّها عبارةٌ فلسفيّةٌ محكمة. هل ينبغي أنْ ندرّس الفلسفة في كليّةٍ ما، وأنْ نكتبَ كتاباً أو كتابيْن ليعترفَ لنا جمهور القرّاء بأنّنا نصدرُ حِكَمَاً بليغة؟ لا أظنُّ ذلك. أو ما هكذا يجبُ أنْ يسيرَ العالم. ثمّة امرأة إريتريّة عجوز، كانتْ تبيعُ الزّغنى في الدّيم، تحديداً في حيّ الزهور، قريباً من طلمبة الغالي. لم أرَ منها إلّا حِكَمَاً غالية، ومتعاليةً، على ما يقولُ مولانا صدر الدّين الشّيرازيّ، ومجموعة الحكماء الإلهيين. ينطقكَ الحقُّ بالحكمة حين تكونُ مستعدّاً لها. ليس بالضّرورة أنْ تكون حكيماً أو متفلسفاً. مجرّد ناطقٍ بالحكمة. ربّما لذلك لم يجدِ الكثيرون من الحكماء الإلهيين السُّودانيين حظّهم. أمثال فرح ود تكتوك والعبيد ود بدر، أو ود ريّا. على أنَّ عزاءنا – كما قال الطّيّب صالح بشأنِ حظّنا من المتنبي أنَّ ناقتَه كانت بجاويّة – هو أنَّ لقمان الحكيم الذي طبقتْ شهرته آفاق المسلمين، كان نوبيّاً، “من إندينا”.
حسناً… يتغذّى الوهم على الوهم. يعتقدُ الكثيرون من العاملين في الإعلام أنّهم قادرون على صناعة الرأي العام، أو تغييره، على الأقلّ. بعض الأدبيّات كانت تقولُ بأنَّ الصّحافة هي السُّلطة الرّابعة. تستطيعُ أنْ تقلبَ الموازين، وأنْ تُجبِرَ الحاكمين على تغيير مواقفهم. شخصيّاً، أعتقدُ أنَّ ذلك ضربٌ من الوهم في بلادنا، السُّودان. وذلك لمعرفةٍ لصيقةٍ بالسياقات السِّياسيّة والثقافيّة والمُجتمعيّة، ومعرفة أيضاً بأهواء ومُيُول ومواقف الإعلاميين والصّحفيين. وأعرفُ أنّهم لن يكونوا جُزءاً من أيّ مشهدٍ قادم، في المستقبل، لعجزهم عن تغيير أنفسهم وقُدراتهم، ناهيك عن تغيير الواقع. واقعهم أبأسُ من أيّ واقعٍ آخر، فمن الحكمة أنْ لا يعوَّل عليهم في تغيير واقع البلاد، سواءً بإزجاء النُّصح للحاكمين، أو بدفع المجتمع والقطاعات الفاعلة لإعادة التفكير في قواعد اللعبة المُستقبليّة.
يدأبُ الإعلاميّون في الحديث عن ما لا يعرفون. وهذا أكبر الوهم الذي سيغذّي أوهامهم. يدأبون في الإغراق في وهم أنّهم يملكون المعرفة. وهذا خاطئٌّ جدّاً. لكنّ الأدهى منه هو الوهم الكبير الذي يعيشُ فيه تجمُّع المهنيين. نقلتْ مواقع وصحف أقوال مؤتمرٍ صحفيّ تحدّث فيه محمّد الناجي الأصمّ، وآخرون عن تطوير وتحديث وغير ذلك، مما يختصُّ بالطّيران المدنيّ. والقوانين والأجنحة والتبعيّة والفضاء ودول الجوار وما إلى ذلك. الخبرُ جميلٌ لكلّ الواهمين. مقنعٌ للفتيات محبّات الكاروهات، والفتيان الوسماء. شبيهٌ بزيارة سجّلها، هو ومولانا إسماعيل التّاج إلى رئاسة الكهرباء، بُعَيْدَ سقوط نّظام الإنقاذ، كانا – وآخرون – يفترشون النّجيلة ويستمعون إلى مشاكل قطاع الكهرباء، وتحدّثا عن حلول جذريّة. الصّورة شهيرة، بالطّبع. استعادها بعضُ ساخري الفيسبوك والوسائط، معلّقين بأنَّ الكهرباء “لم تذقْ عافيةً منذ هذه الجلسة”. وهذا ذكاء فطريّ.
لو سألَ سائلٌ – في الدّولة المدنيّة المزمع قيامُها – ما علاقة الأصمّ بالطّيران المدنيّ وتبعيّته؟
سينصرفُ الكثيرون عن الخبر والعلاقة، وتحملقُ اليافعات في وسامة الأصمّ وكاروهاته. وسنسمعُ بعد قليلٍ قراراتٍ من مجلس الوزراء أو السياديّ أو الحريّة والتغيير تقضي بأنّه، وبناءً على توصية تجمُّع المهنيين، فقد تمّ تعيين أو فصل أو ضمّ أو لصق أو إلحاق أو تبعية، أو أيّ شئ من هذا القبيل. ذلك زيادة في الوهم. والوهم ليس زيادةٌ في الكُفر. سنبني هذه الدّولة المدنيّة بالأوهام. مثل أوهام الصّحفيين والإعلاميين بأنّهم يعرفون كلَّ شئ، يغيّرون المجتمع والسياسات، يرسمون حدود كلَّ شئ. فلا بأس بقليلٍ أو كثير من الوهم، فالفشل لا يولدُ إلّا الفشل.