دكتور علي شبيكة: تمنيت أن تغني أم كلثوم واحدة من قصائدي!!
كلمات لا تسقط بالتقادم ولا يغشاها غبار الزمن
لم يكن هناك فرح واحد في العاصمة إلاّ وكان أحمد المصطفى مغنياً فيه، دون أن يتقاضى قرشاً واحداً!!
أجد في نفسي لهفة خاصة بتجربة الشاعر الكبير الدكتور علي شبيكة .. فهو يعتبر واحداً من الذين أثروا وعطروا الوجدان السوداني بأعذب وأجمل الأغنيات.. ولعل ثنائيته مع ثنائي العاصمة كفيل لأن تؤشر على تجربة مبدع كالساقية قدم عطاء جزيلاً ومازال حتى الآن يواصل بذات عنفوان الشباب والقلب الأخضر.. توقفت عند الرجل كثيراً وأنا أبحث عن خبايا وخفايا حياته .. ووجدت بعض الذي يمكن أن يشفي الغليل ويعرف الناس به أكثر ويقربهم من تجربته من خلال هذا الحوار.
*خلال فترة الجامعة ببيروت, هل كنت تتعاطى الشعر قراءة واطلاعاً؟
(شوف).. أنا درست صيدلة, وإن كنت لا تعلم, فكلية الصيدلة من أصعب الكليات في الدراسة الجامعية.. لأنك معرض للتدقيق في المعلومات فائق الحدود، وكانوا يحذروننا بالإشارة إلى أننا مسؤولون عن الدواء للمريض, وأى تقصير أو خطأ يؤتى نتائج خطيرة جداً للمريض، كذلك معرضون لحفظ أشياء لا تعرف ربطاً لها حتى تحفظها مثل أسماء أدوية ونباتات طبية ومركبات كيمائية ذات أسماء لاتينية.. وفى بعضها أسماء ذات موسيقى.. لذلك كله تستغرقنا الدراسة طيلة اليوم،
هل علاقتك بالراحل بالسني سبقت إبراهيم أبو دّية؟
لا العكس.. جاءني إبراهيم أبو دّية فى الإجزخانة قبل تكوين ثنائي العاصمة، وكان يغنى وقتها أغنية (مريّا) للشاعر صلاح أحمد إبراهيم.. وحقيقة جاءني معرفاً بنفسه، واستمعت له ليصبح صديقاً لي، بعدها جاء السني الضوي لصرف روشتة فتعرفنا وبدأت علاقتنا.
*حتى ذلك الوقت لم تعلن نفسك كشاعر غنائي؟
لم أعرف الشعر الغنائي وقتها.. لكن بالصداقة التي بدأت تنمو تلمسوا في شخصي هذا الجانب، وأكثر الذين أسهموا في تمتين هذه الصداقة المرحوم الحويج الذي كان صديقاً للإخوة الذين درسوا في مصر، أمثال التجاني فضل الله، وسيد خليفة، وكنا أصدقاء قبل دخولنا للوسط الفني، بعدها كون السني، والحويج، وإبراهيم أبو دّية ثلاثي العاصمة فتعرفت عليهم أكثر.. وبدأت (المروحة) تدور.. هذه المسألة تحتاج إلى كتاب كبير وطويل لتوثيق هذه الذكريات.
*نواصل بداية المسار نحو غناء الفنانين لقصائدك؟
بحكم الصداقة طلب مني الحويج أغنية بحجة أن رصيد أغنياته في الإذاعة لا يتعدى أغنيتين هما (على رُبى أم درمان) و(يا حمام).. أما (كلمة منك حلوة) للشاعر عبد الله حامد الأمين فغناها لاحقاً مع عثمان حسين. والحويج لا يُرد له طلب، ولا مجال لديّ حتى لا أدعمه فمنحته أغنية (أمانة) ليظفر بها الحويج وتقول كلماتها:
دائماً قلبي ساهر
ساهم بيك يطوف
مثلك في المشاعر
يا حبي العطوف.
ذهب بها الحويج إلى عثمان حسين ليلحنها له، لكنه اتصل بي موضحاً أن الأغنية أعجبت عثمان بعدما لحنها، ويريد موافقتي، وأنت تعلم أن عثمان في ذلك الوقت لا يُرد له طلب فذهبت الأغنية إليه بقدرة قادر. وبطبيعة الحال أصبح عثمان أول فنان يتغنى بكلماتي.
*بعدها اتجهت إلى الثلاثي أم الثنائي؟
لم أمنح الثلاثي أغنية، وإنما ذهبت أغنياتي للثنائي السني الضوي وإبراهيم أبو دية.. ودي قصة طويلة.
*كيف بدأت؟
الثلاثي كانوا يتغنون لمحجوب سراج وسيف الدسوقي, لكن بعدها غنى لي صلاح مصطفى أكثر من (15) أغنية, لعلي أذكر لكم منها (تناول ورقة مكتوباً عليها مجموعة من الأغنيات) وبدأ يسرد على أسماعنا:
(عصفورتي الجميلة، لا يا جميل، يا روابينا، رجع الصدى، لبيك الله، ما ناسينا، زمان ما كنت ما بتنسى، لا لا، بعد البعاد، قريت من عيونك الحلوين، ضربت أقول صباح الخير، بتسأل عن قليبي مالك، أول مرة عيني تشوفك)، وبعدها افتتاحية المهرجان الثقافي الأول، وأغنية (صدى وجفاك).. وأغنية (بعد البعاد), وهي الأغنية التي فازت في مهرجان الثقافة الأول في العام 1975م.
*وكيف سارت تجربة الثنائي؟ ولماذا يأتي الانطباع لدى المستمع بأنك حصري على الثنائي؟
لأنهم أكثر من تغنيا لي بحوالي (ثلاث وثلاثين) أغنية، لكن السني الضوي لحن لي أغنيات لفنانين آخرين أمثال عبد العزيز المبارك (ليه يا قلبي ليه)، و(بوصيك يا المفارق وراحل عننا)، كما لحن لي أغنية (شفتك وابتهجت) لمحمد ميرغني، ولحنان النيل أغنية (يا خسارة يا قلبى الحنين) و(كلو بمضي) وحياة محجوب (ما تفرقوا الأحباب).
*عموماً كيف تنظر لساحة الغناء السوداني التي يحيط بها التداخل والصراع ما بين الأجيال؟
هذا ملف كبير.. وليس هناك ما يسمى بأغنية شبابية أو غيره، وفي جميع مراحل الأغنية السودانية كانت هناك أجيال, مثلاً جيل إبراهيم عوض وصلاح بن البادية، كانوا شباباً ليجدوا أمامهم جيل أحمد المصطفى، وحسن عطية، وعبد العزيز داود، لكن الحقيقة أنهم جاءوا بفن وغناء جديد وبأصوات وألوان جديدة من الغناء واستطاعوا أن يحجزوا مكانهم.. زمان كان الناس لديهم الهواية وحب الفن والغيرة على الغناء, والأمر الآن يختلف.. والذي نعرفه لم يكن هناك فرح واحد في العاصمة إلاّ وكان أحمد المصطفى مغنياً فيه، دون أن يتقاضى قرشاً واحداً، أما الآن فاختلفت الأوضاع،
*وماذا عن القادمين الجدد:
أصبح القادمون الجدد يريدون تقليد الغناء الموجود وإعادته على الأسماع دون تجديد ليتقاضوا عليه أجراً باعتبار أن العائد جيد في كل المنابر؛ شركات الكاسيت، والوسائل الإعلامية، وبالتالي حدث الهرج والمرج، ومسألة الحقوق الخاصة بالملكية الفكرية. ومن باب أولى أن تحفظ الحقوق اتقاءً للمساءلات القانونية والمحاكم، حتى إذا وصلت حد التصفية من قبل الورثة تصبح في عداد المسائل المعقدة، وأعتقد أن الخطورة تصل إلى أن هناك تراثاً فنياً قيّماً مهدداً بالضياع, فمن الخير للفنانين الجدد توفيق أوضاع الحقوق الأدبية والفكرية التي يواكبها حق مادي، والقوانين في طريقها للتطبيق.
*هناك شعراء يتمنون أن يتغنى بأغنياتهم فنانون بعينهم, فمن هو الفنان الذي تمنيت أن يغني لك؟
تمنيت أن تغني لي السيدة أم كلثوم، خاصة عند زيارتها إلى السودان, وهي قد بدأت التغني لشعراء عرب من بلدان مختلفة، وطلبت أغنية لشاعر سوداني حتى تغنت للراحل الهادي آدم، راودتني الفكرة في تقديم قصيدة فصحى، لم تكن لدىّ الشجاعة في عرضها عليها، وكلما قرأت هذه القصيدة في منبر من المنابر أقول لنفسي لماذا لم أقدمها لها، لكن كثيراً من الأصدقاء والأحباب أبدوا إعجابهم بالقصيدة وعلى رأسهم الصديق والأديب الراحل الطيب صالح الذي كان كلما التقاني في محفل قدمني إلى الناس بهذه القصيدة.