عبد الحفيظ مريود يكتب.. هل أنتَ جاهزٌ؟
ذهبنا إلى مضارب الحلاويين. كان ذلك قد قبل عامين، تقريباً. المهمّةُ كانتْ صناعة فيلمٍ قصير لصالح اليونسيف، بالتعاون مع الأمومة والطّفولة. ثمّة أمرٌ جَرتْ تسمّيته “التخلّي المجتمعيّ عن العادات الضّارة”. وهو من تسميته يشيرُ إلى أنَّ الفعل يأتي طَوعيّاً، وليس عن طريق “مُكافحة”. ذهبنا إلى قرية “الشّيخ البَصير”. وهم الأنصار الصّحاح، الخُلّص. مُحطّة “ود البصير” في أمدرمان ترجعُ إلى أحد أهمّ أفراد العائلة.
كان هناك رجلٌ من أهل قرية الشّيخ البَصير، مغترباً في المملكة العربيّة السّعوديّة. سألَ مشايخ وأطباء حول ختان الإناث، فكانتِ الإجاباتُ كلّها أنَّ الأمر مُجرّد “عادات وتقاليد”، ليس ديناً ولا طبّاً وصّحة. فقرّر – في النّصف الأوّل من ثمانينات القرن الماضي، أنْ يمنعَ ختان بناته، مهما كلّف الأمر. كان يرى مُعاناة زوجته في مولودها الأوّل، فقرّر أنْ يترفّق ببناته. وسط مُعارضات مُجتمعٍ مُتكاملٍ، من الحبُّوبات والخالات والعمّات، أنفذتْ زوجته قراره. أسهم خليفة الشّيخ البصير بالتوعية في المسجد وحلقات الذّكر والدروس، وذهبَ أبعدَ من ذلك عمليّاً بأنْ منعَ هو شخصيّاً أيدي القابلات من الوصول إلى بناته. شيئاً فشيئاً اقتنعتِ القرية، وبعض القرى المجاورة، فلم تعد، بمرور الوقت، فتاة في المحيط مُتعرِّضةً للتشويه البغيض. حين سألنا سيّدات شابّات من القرية، تزوّجن وأنجبن، كانت إجاباتهن أنّهن لا يعرفن كيف هو الختان. يسمعن به من أحاديث الكبيرات في السّنّ، ليس أكثر.
التأثير الكبير للرّجل الفرد في مُجتمع القرية، والقُرى المُحيطة، أبطلَ عادةً مُتأصّلة، ضاربة في القِدَم. دون بطولات أو ادّعاءات. حتّى أنّني لا أتذكّر اسمه، من فرط تواضعه، وبساطة إدارته للمسألة المُعقّدة هذه. دوافعه الأصليّة كانت حناناً وشفقةً على زوجته التي يرى كم تتألّم. وحرصاً على الّا يكون مسؤولاً عن آلام الصغيرات القادمات، في مُجتمعٍ جاهلٍ. قرية الشّيخ البصير لم تعُدْ تزوّج بنتاً لم تبلغ الثامنة عشرة. لم يقف أحدٌ ليمنعَ ذلك بالقوانين أو السُّلطات المَحليّة. ينتشر الوعيُّ لطيفاً، مثل كأس الشمبانيا، ويفعلُ فعله. يندرُ أنْ تجدَ في القرية فتاةً غير خريجة.
مثل هذا الفعل يقومُ به رجالٌ مجهولون، تماماً. كانت – ولا تزالُ – معارضة ختان الإناث فعلاً تقومُ به المرأة ضدَّ المرأة. ليس جديداً أنَّ الرّجال لا يطلبونه. تعكف مُجتمعات النّساء على ممارسة العنف ضدَّ بعضها. في مثل هذه الظّاهرة، تتصدّر الأمّهاتُ والجدّات، الخالات والعمّات المشهد، ويمارسنَ عنفاً مُقنّناً على مُجتمع الصّغيرات، دون تدخُّلٍ مباشر من الرّجال. في كثير من الأحيان، إنْ لم يكنْ في غالبها، يقفُ الرّجال مواقف معارضة.
يجري ذلك على مسألة التعليم، وغيرها. يحرصُ الآباء على تعليم بناتهم. ليس لشئ إلّا لأنّه يُريد أنْ تكون ابنته أفضل. أنْ تكون أجمل. أنْ تكون أطهر. أنْ تكون مشرّفةً له ولإخوانها. ففي النّهاية يَتشكّلُ “المجتمعُ الذّكوريّ” من هؤلاء الآباء، قبلَ كلّ شئ.
الكلمة التي كتبتها، هنا، قبل بضعة أيّام، توضيحاً لأدوار المرأة في المُجتمع السّوداني، المنظورة وغير المنظورة، والتي سبقتْ المطالبات الحقوقيّة بوقتٍ طويل، أتتْ بتعليقات من النّسويّات الحريصات، فُهمتْ على غير وجهها. ليستِ الأغراض ههنا إثبات تغوُّلات الرّجال على حقوق النّساء في المُجتمع السُّوداني، بصُورةٍ واسعةٍ، أو إثبات العكس. وإنّما هو النّظر إلى الإشراقات التي قَدّمها الرِّجال لتَنمية مُجتمعاتهم. قبل أنْ تذهب إلى قصص الشّريف أدروب عليه رحمة الله، الذي كان – مِن فرط حِرصه على تطوير المرأة البجاوية – يعلّمهن كلَّ شئ، من فكّ الخطّ وتحفيظ القرءان، حتّى الحياكة وعواسة الكِسرة ووصفات الأكلات.
