السفير عبد الوهاب الصاوي يكتب.. تعقيدات الانتقال وعثرات العبور للديمقراطية
تثير مسألة كيفية إدارة الفترة الانتقالية في السودان أسئلة كثيرة لا تجد لها إجابات شافية في الحوارات التي نشاهدها حالياً في التلفزة ونقرأها في الصحف. وأول هذه الأسئلة إن كانت الفترة الانتقالية مقصود بها الفترة التي يجري فيها الانتقال من نظام دكتاتوري مستبد إلى نظام ديمقراطي، أم مقصود بها إجراء تغيير في نظام الحكم وبرامجه السياسية والاقتصادية والانتقال به لعهد جديد لما بعد الثورة؟
وبين هذين المفهومين اللذين يبدوان متشابهين، هناك اختلاف كبير. فالأول هو مرحلة لما بعد السقوط المباشر للنظام الذي أنهت الثورة ولايته. والثاني هو مرحلة تمكين المواطنين من الأختيار الحر بين برامج للأحزاب المتنافسة في رحاب الديمقراطية التعددية. وفي ذلك يجري الآن صراع في المفاهيم بين أطراف الحراك في الساحة السياسية والإعلامية القاصدة تشكيل الرأي العام . وتحاول قيادات هذه الأطراف الموجودة بفاعلية في الساحة بالغموض وخلط الأوراق بترديد أحاديث عن أهمية التوافق والعبور وطرح عموميات لا تساعد في التبصر لانتهاج سبل جديدة للحوار تستهدف الخروج بنتائج عملية وتقاليد جديدة لحوار جاد وممارسة جديدة لديمقراطية منتجة ومستدامة. و للأسف فإن طبيعة فراغ الحوار من المضمون تدفع به للتحول إلى محاصصات في كيفية إقتسام السلطة، ويحيد عن طريقه المستهدف إرساء مبادئ جديدة للديمقراطية كوسيلة واحدة لا بديل لها لتبادل سلمي للسلطة عن طريق الانتخابات التعددية الحرة والشفافة بين الأحزاب والاختيار بين قياداتها برامجها.
يردد معظم قيادات تجمع قوى الحرية والتغيير أن الديمقراطية ليست رمي أوراق اقتراع في صناديق الانتخابات. أولاً ورّثنا من النظام المستبد تركةً مثقلة من الممارسات المنحرفة فى السياسة والتخريب الممنهج لمؤسسات الحكم والفشل فى إدارة الدولة وأجهزتها واقتصادها وأجهزتها العدلية مما يعيق ممارسة راشدة لحكم ديقراطي مستدام، إن لم يسبقه كنس للتركة المهترئة لمؤسسات الحكم وقيام بدائل جديدة تنبعث من مبادئ الثورة وطموحات شبابها. وكل هذا متفق عليه. فالنظام البائد لم يكن ليسقط لولا فشله فى إدارة الشأن العام وخوار أجهزته ووسائله ورجاله المختصين للأسف في قمع وإخضاع الناس ووصول الحكم المستبد إلى حالة العجز التام. والجهة الأخرى وصلت الجماهير وخاصة الشباب لدرجة من الوعي والصمود والدفع الثوري جعلت سقوط النظام لا محالة واقع. ودفعت هذه الحالة أصحاب المصلحة المستفيدين من النظام الآيل للسقوط “بس” إيجاد بديل بتغيير وجوه المستبدين في واجهة السلطة وقمتها إلى شخصيات جديدة وشعارات جديدة تضمن حماية مصالحهم واستمرارية سير الأوضاع في نفس الاتجاه القديم. وهكذا تم إفراغ هدف التغيير من مضامينه الثورية وأهدافه المتوجهة إلى إرساء أسس ومؤسسات وتقاليد جديدة تسمح للجماهير الحرية في الاختيار والتعايش داخل التنوع والمساواة أمام القانون وتثبيت أركانه بالعدل وعدم الإفلات من العقاب.
ثانياً: تقول قيادات قحت إن تجارب الانتقال العاجل بعد انتفاضة أكتوبر 1964 ومارس- أبريل 1985 إلى الانتخابات كانت من أهم عوامل فشل النظام الديمقراطي وعودة العسكريين للحكم واستمرارهم بعد مايو 1969 لست سنوات وبعد يونيو 1989 لثلاثين سنة، وتحريك الدائرة الجهنمية لمصلحة استطالة أعمار الأنظمة العسكرية في السلطة، وبالتالي تقليل الزمن والفرصة للحكم الديمقراطي لبناء أطره المؤسسية وترسيخ تقاليده وتثبيت قدرات حكم تعددي مستدام. وفي رأيي أن انتقالي أكتوبر 64 وأبريل 85 بريئان براءة الذئب من دم ابن يعقوب من التسبب في فشل النظام الديمقراطي الذي تلاهما. فالمشاكل الأساسية لضعف النظم الحزبية بعد الانتقالين كانت في عدم ديمقراطية الأحزاب نفسها وعدم إدارتها لنظام سياسي حزبي بثوابت وتقاليد متطورة متفق عليها واستنادها على قواعد متخلفة قبلية وجهوية وعدم استطاعتها إقامة نظم حديثة لإدارة الدولة بخدمة مدنية مؤهلة فنياً ومحايدة سياسياً ومحصنة ضد الفساد المالي والإداري والمحسوبية العائلية الزبائنية. كما لم تقم بمهام تطوير قوات مسلحة عالية المهنية ومنضبطة وغلا ما كانت مخترقة من الانقلابيين من كل حدب وصوب . ولم تطور وتدرب الأجهزة أمن لتكون قادرة فنياً على تقديم المعلومات اللازمة والعمليات المحدودة لمحاربة التجسس والنشاط الاستخباري الخارجي والتعامل مع مصالح الخارج بالتهريب وغيره، وكل ذلك في إطار القانون..