عبد الحفيظ مريود يكتب : كنداكة جات.. جري
حين مرّتِ السيّدةُ علويةُ الميرغنيّة، قادمةً من مصوَّع، على سوق “ماركاتو” في أديس أبابا، أيّام الاستعمار الطليانيّ لها. طلبَ منها التّجارُ المسلمون أنْ تحادثَ الخواجات ليخصّصوا لهم قطعةَ أرض للصّلاة. طلبت من الحاكم ذلك، فأنفذَ طلبها، فوراً. صارَ الجامعُ القائمُ الآن في “ماركاتو” قبلةً ومتّكأً للمسلمين هناك. يتلقى أناسٌ كثيرون دروساً هناك، ويُؤوى مَنْ لا مأوى له. يمكنُ للمسنّين أنْ يحدّثوك عن أدوار السيّدة هناك. بقدَر ما يحدّثكَ رجلٌ ضليعٌ من سنكات عن أفضال السيّدة مريم الشّريفة، ودورها في نشر التعليم وإسناد المرأة.
الحكاياتُ التي تسردُها بعضُ “المُثقّفات العارفات” عَن قَمع المرأة في مجتمع السُّودان الذّكوريّ، تتعمّدُ تجاوز النواصع من الحكايا، والتأثير الكبير للنّساء في المجتمعات السُّودانيّة. ربّما تجهلُ النّاشطاتُ الحكايات هذه، حتّى لا نتّهمهن بالتعمُّد. الشّيخ العبيد ود ريّا، أمّه أشهر من أبيه. دورها أكبر من أنْ تحيطُ به كتابةٌ عاجلة في مجتمعها. مثلها مثل والدة الشّيخ حسن ود حسونة. زينب بت بيلا، الشّهيرة بالأوقاف. مريم بت جلواك، جدّة الشّيخ المكاشفيّ، والكثيراتُ من العارفات، اللائي شكّلن رموزاً في التصوُّف السُّودانيّ.
مما هو مفروغٌ منه، أدوار مهيرة بت عبُّود، رابحة الكنانيّة، بنونة بت المك، مندي بنت السّلطان عجبنا، في الحروب والنّوازل المدلهمات. والشّاعرات، الحَكّامات، اللائي لولاهنّ، لما انتصر رجالٌ في أيّ حرب. هذا طبعاً مقروءاً في سياق أرحب، من لدنْ إمبراطورية “نبتة”، وبعانخي العظيم. فقد شكّلتْ أخته أماني ريديس “أيقونةً” للزّهد والانقطاع للعبادة، حتّى أنَّ تمثالها موجودٌ في الفاتيكان باعتبارها أوّل امرأة نذرتْ حياتها للعبادة. كانتْ تقف وراء أخيها العظيم الذي استسلمتْ له مصر، جزء من ليبيا وبلاد الشّام، ودام حكم عائلته قرناً من الزّمان. بعد نبتة أقبلتْ مروي بكنداكاتها الشّهيرات. مَنْ أوقفنَ الرّومان، وفعلنَ الأفاعيل في الأعداء. تشيرُ الدّراسات إلى أنَّ بلقيس ملكة سبأ نفسها كانتْ إحداهنّ. إذْ لم تحكم امرأةٌ إثيوبيا أو اليمن طوال التأريخ.
ضمن تقرير رصين لإسكاي نيوز عربيّة، أشارتِ الأرقام إلى انَّ المرأة/الأنثى تشكّلُ أكثرَ من 70% من المقبولين للجامعات، والمُسجّلين في الأعوام العشرة الأخيرة. وللأعوام العشرة الأخيرة كنَّ العدد الأكبر في ترتيب العشرة الأوائل في امتحانات الشّهادة السّودانيّة. المقبولات للطّب في جامعة الخرطوم، هذا العام، ثلاثة أضعاف الذّكور. وقريبٌ من ذلك نسبة الطّب بجامعة الجزيرة. يستأثرنَ بالتفوّق على الذّكور في كلّ المجالات، على طول وعرض الجامعات السُّودانية (54 جامعة). تشيرُ المعلومات إلى أنّهن ولجنَ تخصُّصاتٍ كانتْ حِكراً على الذّكور حتّى وقتٍ قريبٍ. مما يشيرُ إلى أنّنا نقترب من ملحقٍ من ملاحق العصور التي سادتْ فيها المرأة، في مروي. ذلكَ أنّه – بمرور الوقت – سيشكِّلن القوة الضاربة علميّاً، وبالتّالي – في عصر الكفاءات القادم – سيستحوذنَ على نصيب الأسد في وظائف الخدمة المدنيّة، والقطاع الخاص. في حين سيضطرُّ الذّكور إلى الهجرة، أو الانضمام إلى صفوف القوات النّظاميّة، أو الحركات المسلّحة، ليجرى تقسيم وظائف عليهم، بفرض السّلاح، لا بالكفاءة والتأهيل والممارسة.
النّظرُ إلى مثل هذه “الاختلالات” مهم، بالطّبع. وهي ليستْ اختلالات، قطعاً، بقدر ما هي تحوّلات. ذلك أنَّ النّظر والانتباه يسهّل إجراء الدّراسات وبناء الخطط والاستراتيجيات وفقاً لمثل هذا التغيّر. فالمستقبل يقومُ على البيِّنات، مثله مثل أيّ قضيّة أمام محكمة. والبيّنات التي بين أيدينا تشيرُ إلى أنَّ العشرين عاماً القادمة، ستجعلُ للمرأة الكلمة العليا في السُّودان. هذا طبعاً باحتساب أنَّ الكثير من المهن سيجري امتهانها من قِبل النّساء، من عاملاتٍ في المصانع والطلمبات، إلى القضاء، ورئاسة الوزراء. ومِنَ المُؤكّد أنَّ نسبهن ستزداد في القوّات النّظاميّة، وربّما يدخلن مقاتلاتٍ في صفوف الحركات المسلّحة القادمة، إذْ لا يمكنُ تصوُّر سودان بلا “حركات”.
على النّاشطات مراجعة تأريخ المرأة السُّودانية في كافة المجالات، وقراءة الأرقام والإحصاءات الرّاهنة، قبل أنْ يفلقن رؤوسنا بالختان وزواج القاصرات و”ذكوريّة” المجتمع.