كانَ في مقدورِ السّلطان تيراب، الأقوى في تاريخ حكم دارفور، أنْ ينفّذ مُخطّطه. فرغَ من قلاقلَ بسيطة كانتْ تواجهه مع سلطنة ودّاي. لكنّ طُموحه شمالاً، في حملته للقضاء على المُنافسة الدّاخليّة، أوعزَ إليه أنْ يقضي على سنّار نفسها، لأنّها تأوي أعداءه. انتصر في معركته ضدَّ العبدلاب في قَرّي، وأخذ نحاسهم، وأرسله إلى الفاشر. العبدلاب لا يحبُّون هذا الحكيّ. ولا مشكلة في ذلك. التاريخُ ليسَ عنصريّاً، بالطّبع. وليس محلّاً للتشفّي وغيره من أمراض المجتمعات والأفراد. كان جيشُ تيراب في مسيره إلى سنّار يغلبُ عليه الدّناقلة. المُؤرِّخون يذكرون أنّه عسكر بجيشه ذاك في أم درمان، في المنطقة الحيويّة منها، وذلك قبل المهديّة، وسيرورة أم درمان عاصمة وطنيّة، بنحوِ قرنٍ من الزّمان. لكنَّ السلطان تيراب مرض مرضاً شديداً، أخّر مسيرَه إلى سنّار، التي كانت تستعدُّ لمنازلته. نصحه المُقرّبون منه بالعودة للاستشفاء، ثمَّ القدوم لمعركته. في طريق عودته، قضى نحبه في مدينة بارا، عاصمة كردفان، وقتها، وكانتْ كردفان تتبعُ له.
العناصر التي تشكّلُ اللعبة الوطنيّة من قديمٍ، كانت ولا تزالُ هي نفسها. فالمجتمعُ بدويّ لم يحسنِ الانتقال إلى مرحلة الدّولة. تسيطرُ القبيلة على مفاصله. حين يكتشف اللاعبون السِّياسيُّون أنَّ اللعبة تتفلّتُ من بين أيديهم، يلجأون إلى صديقهم الذي لنْ يخيّب ظنّهم، كما قال إبليسُ لسيّدنا يحيى بن زكريّا عليهما السّلام. “كلّما كثُرتْ لعناتُ الصالحين عليَّ واستعاذاتُ العابدين، ألجأ إلى صديقي الذي لن يخذلني: المرأة”. النّسويّة الجديدة قد لا يعجبها مثل هذا الكلام، مثل العبدلّاب، أيضاً. لكنّني لا أضمرُ شيئاً ضدَّ جهةٍ أو شخص. فناقلُ الكفر ليس بكافر.
كنتُ استقبحتُ عودةَ الجعليين والشّايقيّة لإداراتهم الأهليّة والانكفاء القَبَليّ. وذلك لأنّهم روّاد المدنيّة والتمدّن في السُّودان. وحَمَلَةَ مشاعل التعليم والتّجارة وغير ذلك. لكنَّ الأمر بدا أبعدَ من ذلك حين تنادوا لتوحيد الشمال، الشّرق والوسط، في تكتُّلٍ جديد، بواعثُه لا شكَّ تكالُب “الغَرّابة” على السُّلطة، وجلوسهم على مقاعد الأمر والنّهي. وما يبدو تكتُّلاً مقصوداً للسيطرة على كلّ شئ. يغذّي ذلك تصريحاتٌ هنا وهناك من بعض قادة الحركات المسلّحة، سواء تلك التي قيلتْ بعدَ مجيئهم إلى الخرطوم، أو التي قيلتْ قبل ذلك. مما يبرّرُ ردَّ الفعل الشّمالي في التكتُّل حفاظاً على وجوده، قبلَ كلّ شئ، وحفاظاً على مكتسباته، ثانيّاً، ثمَّ ضمان المشاركة في صناعة المستقبل، وكلّها مشروعة، بالطّبع.
ستتواجهُ السلطنتانِ مرّةً أخرى، في دورة مقيتةٍ من دورات التاريخ. هذا على فرض أنَّ المواجهة الحاسمة التي كان تيراب يهيئ نفسه لها قد وقعتْ. التحالف القديم بينَ العبدلّاب والفونج، هو الذي مكّنَ القبائل العربيّة من الاستحواذ على الأرض، في الجزيرة، والشّريط النيليّ. ذلك أنَّ توثيق داوود روبيني، الذي زار السّلطنة، بعد القضاء على عَلَوَة المسيحيّة، عام 1520م، أيْ بعد سنواتٍ قليلة من قيام السّلطنة الزّرقاء، أثبتَ – التوثيق – عدم وجود أيّ منها على شريط النّيل، باستثناء الجعليين الذين قَدِموا إليه حديثاً، من الغرب، نواحي بارا، حيث لا يزالُ قبر إبراهيم جَعَلْ موجوداً. وهو ما يشيرُ إلى أنَّ الأحلاف القبليّة هي التي كانتْ تؤسّسُ للسياسة وقتها. وفي استنهاض الإنقاذ للأسس تلك، وإحياء مبايعات القبائل والإعلاء من شأنها، استشرى الوضع وتفاقم. حتّى أصبح الحديث عن أسس جديدة للدّولة والبناء الوطنيّ ضرباً من العبث.
تراجعَتِ الوحدة وانتقضَ بناءُ شباب ثورة ديسمبر، الذين خرجوا لا يعرفون مَنْ ينتمي إلى أيّ قبيلة أو جهة. حتّى هتافهم الملهم “يا عنصري ومغرور، كلّ البلد دارفور”، شكّل أملاً في سودانٍ مختلف. لم تتمْ سرقة ثورة الشّباب على مستوى الأنصبة والكراسي والبرنامج السياسيّ، وحسب. وإنّما تجرى سرقة الحلم نفسه، باستعادة الخطابات الظّلاميّة الغبيّة. ثمّة مَنْ يعبثُ بمستقبل السُّودان دولةً للمواطنة وسيادة القانون. دولةً يتمّ التنافُس فيها على أُسسٍ مدنيّةٍ وكفاءةٍ وجدارةٍ. مما سيُهيئ لجيوش إسماعيل باشا أنْ تعود. فانتبهوا يا أولي الأبصار.