الخرطوم ـ محجوب عثمان
قبيل انفجار بركان ثورة ديسمبر، قادتنا رحلة صحفية في ولايات دارفور حتى مدينة نيرتتي، لنشهد وبعد أكثر من 15 عاماً من الحرب، بداية أمن وعودة تنمية إلى مدينة عُرفت بأنها بادئة تمرُّد دارفور، فكان ذلك وبالاً عليها جعلها قبلة لكل مظاهر التسلح التي حوّلت نعيم أهلها إلى جحيم قضوه في صبر وجلد وبعض النزوح، بيد أن ارتباط إنسان نيرتتي بأرضه جعلها تحافظ على تركيبتها السكانية وبساتينها ومزروعاتها، فالمنطقة جنة الله في الأرض يحتضنها جبل مرة، تجود أرضها بكل ما تشتهيه الأنفس من ثمار بعد أن فجّر الله فيها عيوناً تسقي الزرع والضرع والإنسان.
وصولنا لنيرتتي في بداية ديسمبر من العام 2019م، كان هدفه الوقوف على بداية العمل في طريق “كاس – نيرتتي”، حينها كان الطريق الذي تُنفِّذه شركة الجنيد قد وصل إلى كاس وكانت المرحلة الثانية منه أن يمتد نحو نيرتتي لربطها بالطريق القومي، لتحقيق حُلم بدا عصياً تحقيقه كما أكد الأهالي الذين رغم وصول ردميات الطريق إليهم، إلا أنهم شكّكوا في أن يصل المنطقة طريق مسفلت، لكن حُلمهم تحقّق، بل وكان أمس الأول ضربة البداية لمرحلة جديدة يمتد فيها الطريق نحو زالنجى التي تبعد عنها نحو 60 كلم.
الأرض النظيفة
مدينة نيرتتي هي إحدى أكبر مدن محلية غرب الجبل التابعة لولاية وسط دارفور، التي يحدها شمالاً ولاية شمال دارفور، وشرقاً ولاية جنوب دارفور، وفي الشمال الغربي ولاية غرب دارفور .
وكلمة نيرتتي في الأصل نيرتا تيو، ولكن اللفظ الغالب والأعم لدى السكان هو نيرتا تيي بلغة الفور ويقصد بها القطعة المغسولة والنظيفة الخالصة، ووجه الشبه هو شكل أو طبيعة المكان ونظافته.
تقع مدينة نيرتتي شرق مدينة زالنجى في وسط دارفور على بُعد 60 كلم تقريباً ويمر بها الطريق القومي الذي يربط ولاية غرب ووسط وجنوب دارفور ببقية مدن ومناطق السودان، ويبلغ عدد سكانها أكثر من 120 ألف نسمة.
ومن أبرز أحيائها حي العمدة، وحي الاستراحة وحي رجال بنو وحي قعر الجبل وحي قارسيلا وحي كمبي غابات وحي استرحنا وقوز بيضة ومن أسواقها سوق نيرتتي الكبير.
موارد
تعتبر الزراعة المورد الرئيسي وركيزة أساسية في اقتصاديات السكان بنيرتتي وتُمارس على ضفاف الأودية والسهول والمدرجات، والمناخ الجيد والمتنوع أدى لتنوع المنتجات الزراعية الخضرية والبستانية والموالح والحمضيات، وتتميّز منطقة نيرتتي بغزارة الإنتاج في البرتقال والقريب فروت والمانجو والموز وغيرها، ويقف مشروع جبل مرة للتنمية الريفية من خلال غابات البان الكثيفة رغم التدهور الذي أصابه، وتزخر المنطقة بجميع أنواع فاكهة البرتقال والتفاح والمانجو والعنب، كما تنمو فيها أشجار الصنوبر وغيرها من الأشجار النادرة والتي تكون عادةً أكبر حجماً من مثيلاتها في أي مكان نسبةً للخُصُوبة العالية، وتعتبر المنطقة من إحدى مناطق قطع الأخشاب من البان والمهوقني والقمبيل، كما يعتبر الرعى حرفة ثانية لأهلها لاحتوائها على عدد كبير من قطعان الأغنام والأبقار والإبل.
جنة في الأرض
تعتبر نيرتتي واحدة من أكثر المناطق السياحية إدهاشاً في السودان، لاحتوائها على شلالات قلول ومرتجلو الساحرة، وهذا ما يجعل المنطقة زاخرة ومليئة بالموارد ومصادر السياحة ذات التنوع الحيوي، حيث المساقط المائية المُنحدرة من أعالي جبل مرة والعيون المُتفجِّرة من أعماق صخور شلالات مرتجلو وقلول الشهيرة، فضلاً عن وجود أنواع مُتفرِّدة من الطيور المهاجرة والمُقيمة، تعطي رسماً للوحة جمالية سياحية ذات منظر أخّاذ يَسُر العين .
وبقرب شلال قلول، تُوجد استراحة تابعة لمصلحة الغابات ويُوجد مثلها كثيرٌ في جميع أنحاء الجبل أو قُل الجبال المُتعدِّدة المُترامية الأطراف التي تتخلّلها الشلالات والبحيرات البركانية وجداول الماء العذب الجارية على حبات الحصى متساوية الأحجام، نظيفة تلمع كأنّها أحجار كريمة.
كما تدهش الزوار، أصوات العصافير المُغرِّدة ذات الألوان المُختلفة والأشكال المُتعدِّدة والفراشات الزاهية والغزلان التي تتجوّل في أنحاء الجبل بحريةٍ دُون خَوْفٍ أو وجلٍ.
سلمية
وكما بدأ عبد الواحد نور تمرُّده من منطقة نيرتتي في بداية تمرُّد دارفور، قدّمت نيرتتي درساً جديداً في المطالب ونَيلَ الحقوق، إذ يذكر تاريخ ما بعد الثورة اعتصاماً نفّذه الآلاف من مواطني نيرتتي أمام مبنى الحكومة المحلية، مُطالبين بمجموعة من مطالب دفعوا بها للمسؤولين، على رأسها توفير الأمن وتعبيد طريق نيرتتي – زالنجى وإقالة نافذين في السُّلطة الولائية، كذلك إيقاف استخدام الدرّاجات النارية، وجمع السلاح غير المُقنّن، وحماية المُوسم الزِّراعي، واسترداد المواشي التي نهبتها المليشيات المُسلّحة، وتقديم الجُناة الذين قُيِّدت ضدهم إجراءاتٌ قانونيةٌ إلى العدالة، إضافةً إلى فتح المَسَارات لتجاوُز الاحتكاكات الناشبة بين الرُّعُاة والمُزارعين.
وَدَفَعَ الاعتصام الذي استمر لثلاثة أسابيع في سلمية نادرة بدارفور، مسؤولين من الحكومة المركزية قادهم قائد ثاني قوات الدعم السريع الفريق عبد الرحيم دقلو إلى هناك، وتعهّدوا بتلبية مطالب المُواطنين في حينها، وقد اتّخذت الحكومة بعد ذلك قرارات تصب في صالح المواطنين ليكون اعتصام مواطني نيرتتي نُموذجاً في الحصول على المطالب.
بداية جديدة
أمس الأول، أوفی قائد ثاني قوات الدعم السريع الفريق عبد الرحيم حمدان دقلو، عضو شركاء الفترة الانتقالية بوعده الذي قطعه في اعتصام نيرتتي بتنفيذ طريق نيرتتي – زالنجی البالغ طوله ٦٧ كيلو متراً، وبدأت شركة الجنيد المُكلّفة بتنفيذ الطريق وأعمال الشق والتعبيد والرش والدك وفَردَ الأسفلت.
وقال والي ولاية وسط دارفور د. أديب عبد الرحمن يوسف لـ(الصيحة)، إنه من الطرق الحيوية، ويربط الولاية بجنوب دارفور وله منافع إنسانية واقتصادية، وهو طَريقٌ عَابرٌ للحدود وشبه قاري يلتئم بتشاد وصولاً إلی غرب أفريقيا، مُشيراً إلی أنّ الطريق يُقلِّل من النهب ويُساهم في السياحة والاقتصاد، إضافةً إلی تحسين الأوضاع الإنسانية، وقال إنّ إنجاز الطريق ليس له سقفٌ زمنيٌّ مُحدّدٌ، وان ارتفاع الوقود من المُهدِّدات الأساسية للعمل، شاكراً لرئيس مجلس إدارة شركة الجنيد جهوده الكبيرة في انطلاقة العمل.