سراج الدين مصطفى يكتب : محمد الأمين.. عبقرية توظيف التراث الغنائي الشعبي!!
نشأة محمد الأمين في السودان المصغر ولاية الجزيرة وتأثره بفنون تلك المنطقة التي جمعت كل أهل السودان وهم محملون بثقافاتهم الغنائية والصوفية المتنوعة، هذه النشأة والتأثر أصبحا يمثلان جوهراً أصيلاً قيماً ودينمو محركاً فى شكل تأليف معظم الألحان التي قدمها محمد الأمين، فنجد محمد الأمين والذي ظهر بقوة في شكل ألحانه الوطنية والإيقاعات التي تبث الحماس في الروح والمتفاعلة مع وجدان المواطن السوداني،
نجده أيضاً يدخل بعض الأنماط الغنائية الشعبية المنتشرة في السودان مثل اغاني الحماسة، والمناحة، والدوبيت، بل عندما يتناول أغاني من المراحل الفنية السابقة كان يدخل عليها عنصر الإبداع الموسيقي في شكل الموسيقى المصاحبة وإدخال اللزمات الموسيقية، وكان هذا واضحاً في أغنية الحقيبة (بدور القلعة) التي وضع كلماتها الشاعر الراحل صالح عبد السيد (أبو صلاح)، هذه الأغنية قدمها محمد الأمين وهو في بداية حياته الفنية في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، واشتهر بها في مدينة ود مدني، كما قدم أغنية (جاني طيفو طايف) (من قليبو الجافى) (عازة الفراق بي طال).
أما في مجال أغاني الحماسة فقد قام بوضع اللحن لأغنية (عيال أبجويلى).. وعيال أبجويلى هم أسرة كبيرة اشتهرت بالكرم والشجاعة والتجارة بمنطقة (المسلمية) ولاية الجزيرة وفي أثناء تجارتهم بمنطقة غرب السودان قابلتهم قافلة من قطاع الطرق، ولكنهم انتصروا عليهم وظهرت الأشعار التي تمجد شجاعة هذه الأسرة (ابجويلي)، فقام محمد الأمين بحفظ بعض منها بمساعدة إحدى حبوباته، ووضع عليها اللحن المعروف على إيقاع العرضة الحماسي المعروف والذي يميز كل منطقة البطانة.
في تجربة أخرى مستلهمة من الموروث الشعبي ظهرت واحدة من أشهر أغانيه المناحية وهي (غرارة العبوس) هذه المناحة تنسب إلى امرأة كانت تبكي الشيخ عبدا لباقى في وفاته، كانت تؤدى فيها الكلمات الشعرية التي تعبر عن الشيخ عبد الباقي ومكانته السامية، وفي لحن دائري وبسيط، أخذ محمد الأمين هذه الفكرة البسيطة ونماها وطورها من الناحية الموسيقية والأدائية وقدمها لجمهوره وأصبحت من أشهر أغانيه المناحية يؤديها فى مناسباتها المعينة.
أما في مجال الدوبيت فكانت النتيجة واضحة لمبدع تغذى بتراثه واستلهم منه ألحانه، وذلك بإدخال فن الدوبيت في بعض مؤلفاته الغنائية، وذلك واضح في أغنية (جديات العسين) والتي أدخل عليها محمد الأمين مجموعة من أشعار الدوبيت وبألحانه البسيطة والمتنوعة.
وأغنية (زورق الألحان) والتي صاغ كلماتها الشاعر فضل الله محمد وفي الكوبيله الأخير للأغنية وعند البيت الشعري (بيتين من الدوبيت في ليلة صيفية) هنا تتوقف الموسيقى ويصبح هنالك حوار ما بين الكمان الصولو ومحمد الأمين، تبدأ آلة الكمان وكأنما تؤدي لحناً من ألحان الدوبيت البسيطة، ويليها محمد الأمين بالدوبيت الذي أدخل عليه بعض الأبيات الشعرية من كلمات الشاعر محمد علي جبارة.
لم يبتعد محمد الأمين في تناوله في تأليف أعماله الغنائية عن تراثه، بل استفاد من الأفكار اللحنية البسيطة التي تؤديها النساء وخاصة الحبوبات في بيوت الأفراح، مثل الأغنية الشعبية والتي يعرفها كل السودانيين (العديل والزين) وهي أغنية تقدم فقط للعريس تمجده وتقدم له الثناء والحياة الزوجية السعيدة.
أيضاً تجلت عبقرية محمد الأمين في مجال التأليف والاستفادة من فن الدوبيت في أغنية (حروف اسمك) للشاعر هاشم صديق وذلك في شكل التأليف واستخدامه لكل نغمات السلم السبعة.
وذلك التطوير والتجديد تقبلته الأذن السودانية التي تعودت على سماع الخمس نغمات بدون النفور منها، الجانب الآخر والمهم في هذه التجربة هو الكيفية التي استفاد بها محمد الأمين من الفكرة اللحنية للأغنية الشعبية (العديل والزين) وذلك في الجزء الأخير من الأغنية وتعود محمد الأمين ولسنوات طويلة يقدم هذه الأغنية في بداية أي مناسبة فرح ويظل يردد الكوبيليه الأخير عدة مرات فرحة بالعرسان.
تجربة الفنان محمد الأمين تعبر عن المبدع الذي ارتبط بوجدان شعبه مستفيداً من تراثه وتشبع به منذ نشأته الأولى بمدني، إضافة إلى وعيه المبكر بدراسة النوتة الموسيقية وعلوم الموسيقى الأخرى مثل القواعد والصولفيج ومهارته العزفية على العود، كل هذه العوامل والتأثيرات التي تفاعلت معها جعلت محمد الأمين يبتكر ويجدد ويطور في شكل الخماسي، فبعد معرفته بالسلالم الموسيقية وكيفية استخراجه لها وإضافة النغمة السادسة للخماسي، واستخدامه في كثير من الأحيان لكل درجات السلم السبع، ظهرت موهبته المستندة على العلم وذلك في شكل الانتقال ما بين السلالم، من السلم الكبير إلى الصغير، الانتقال المباشر، وذلك في شكل سلس وبسهولة لا ينفر منها المستمع.