الدكتور أنس العاقب يكتب: (بناديها).. بين عمر الحاج موسى ووردي والدوش
وردي اكتشف عالماً جديداً وواقعياً ومتناقضًا تجلى في أغنية بناديها
(1)
كنا قد استدعينا نحن جمهرة من الموسيقيين والمطربين وأساتذة وشعراء ومسئولين لاجتماع عاجل بوزارة الثقافة والإعلام مطلع سنة 1974 وبعد اكتمال المدعوين جاء ورأس الاجتماع الوزير الأستاذ عمر الحاج موسى، وقد كان رحمه الله رجلا فذاً في عسكريته وثقافته وأدبه وأريحيته كما كان سياسياً من طراز سوداني فريد وكان قادرًا على امتلاك ناصية الحديث بلاغة وأدباً وتأدباً وثقة بالنفس وسماحة بمحدثيه.
(2)
دار نقاش حول إمكانية قيام المهرجان الغنائي الموسيقي الأول في بحر ذلك العام نفسه (وهو ليس مهرجان الثقافة الأول الذي انعقد عام 1976)، وليس بخافٍ على الجميع حالة الجفاء التي سادت العلاقة بين نظام مايو والفنان محمد وردي، وفي الحديث عن ليالي المهرجان تحدث الوزير مقترحاً أن يختتم المهرجان بليلة ختامية تكون هي قمة الليالي يتنافس فيها عمالقة فن الغناء بأعمال جديدة ترصد لها جوائز تشجيعية غير مسبوقة.
(3)
وفجأة وبدون استئذان انبرى وردي موجهاً حديثه مباشرة للوزير قائلاً (يا سيادة الوزير أنا لن أشارك في هذه الليلة لسبب واحد هو أنني فوق التنافس ولا أحد يستطيع منافستي)، وقبل أن نلتقط أنفاسنا من هول كلام وردي الصريح المصادم فقد كان من بين الحضور عدد مقدر من فنانين كبار وكبار جداً… واصل وردي حديثه (وكيف أشارك وأنتم يا سيادة الوزير أوقفتم بث أغنية بناديها).
(4)
وبروح طيبة ونفس هادئ رد الوزير عمر حاج موسى قائلا (أمر مؤسف ألا تشارك في المنافسه يا وردي)، ثم التفت إلى المرحوم محمد خوجلي صالحين مدير الإذاعة آنذاك، وهمس في أذنه بكلمات قليلة واستمر الحوار حول ترتيب فعاليات ليالي المهرجان الغنائي الموسيقي الأول، وكنت أمثل معهد الموسيقى، واقترحت أن يقدم المعهد ليلة كاملة الفعاليات وافق عليها الجميع، وبعد دقائق معدودة دخل إلى الاجتماع الأستاذ صالحين يحمل جهاز الراديو Zenith خاصة الوزير وفتح الراديو على صوت مذيع الربط وهو يقدم أغنية بناديها من كلمات الشاعر عمر الطيب الدوش لحن وغناء محمد وردي.
(5)
استمعناها كلنا كاملة دون أن ترمش لنا أذن، وما أن انتهت الأغنية بادر الوزير وردي في شيء من السخرية المازحة متسائلاً (بالمناسبة يا وردي ما معنى الضل الوقف ما زاد؟) جاء رد وردي سريعاً في ذكاء مدهش (يا سيادة الوزير أنت رجل أديب ماذا تقول؟) ضحك الوزير ورد عليه قائلاً (إنت عارف وأنا عارف) لم يسكت وردي فوجه للوزير سؤالاً ساخراً… (طيب سألتني ليه؟) انفض الاجتماع المثمر الذي أفضى إلى قيام المهرجان مع الإبقاء على ليلة الكبار بدون منافسة شريطة تقديم الجديد خرجنا ووردي أطولنا قامة وأعلانا هامة.
(6)
وأما عمر الدوش فقد ظل يردد معنا منذ ذلك الزمن:
(مسافر من فرح لي شوق بغازل في حنان ليها)
ولم يتردد وردي في غناء هذا المقطع كاملاً مؤكداً بطولته المطلقة صوتاً وأداء عميقاً معبراً، ولكن عمر الدوش لا يكتفي بهذا الحلم الذي نادانا إليه، لأنه الآن في حالة طاغية من التأسي والتحدي، وأما رومانسية وردي المطلقة بدأت تتغنى بصوت محزون شجي ثم بصوت الساكس وأنينه المبحوح متبادلاً مع الأوركسترا التي تؤدي فيها الوتريات دورًا أساسياً، ثم وهي تئن بالجملة الموسيقية وليس لها سوى أن تتأوه وتتأوه ثم تندفع لتختتم هذا العذاب الجميل وأنفاسها تتردد من خلف وردي وهو يتأسى بصوته الحزين وبلا توقف ونحن نلهث خلفه وقد غلب علينا الأسى والطرب:
“ولما تغيب عن الميعاد
أفتش ليها في التاريخ وأسأل عنها الأجداد
وأسأل عنها المستقبل اللسع سنينو بعاد
وأفتش ليها في اللوحات محل الخاطر الما عاد
وفي الأعياد
وفي أحزان عيون الناس
وفي الضل الوقف ما زاد
بناديها.. بناديها.. بناديها.. بناديها.. بناديها”
كان عمر الدوش يترجم القضية في زمن بائس كظيم!!
(7)
وكان وردي الملحن قد فهم المعنى الكلي فأراد أن يؤديه بصوته بلا توقف، ولم يترك للأوركسترا سوى بقية من صدى المتابعة الخافتة ونحن نلهث خلف وردي يستبد بنا الطرب والانفعال في وطن ناسه المبصرون لا يرون مبدعيه ومن يرونهم لا يسمعونهم ومن يسمعونهم لا يحفلون بهم ولا بمقدار قرش تافه !!!!
مع من إذن يتكلم المبدع؟
ومع من يتحاور؟
ولمن في هذا الوطن يبث حزنه وآلامه…. وآماله؟
“وفي أحزان عيون الناس”.
(8)
وردي اكتشف عالماً جديداً وواقعياً ومتناقضًا تجلى في أغنية بناديها التي كتبها عمر الطيب الدوش برؤية وضمير إنسان موجوع وفنان يتعذب، لكنه يظل يحلم ويحلم في خضم عالم غريب عليه، ويعيش فيه، وأما محمد عثمان وردي فهو لم يكن يختلف كثيراً عن عمر الدوش لولا أن الدوش كان مبدعاً متمرداً حالماً ووردي ما يزال مبدعاً مجددا وإنساناً متفلتاً مصادماً وكلاهما لم تنقصهما الشجاعة؛ أحدهما كتب نصًا صعبًا والآخر صاغه لحناً تجاوز به الآذان إلى القلوب واستفز مقطع صغير منه وزيرًا كبيراً، وهذه هي رسالة الفن الحقيقية شريطة أن تكون رسالة مبدعة بحق .
(9)
عمر الدوش كان مؤمناً بفنه وبرسالته، فقد ظل طوال عمره رحمه الله وأحسن إليه ينادي ويبشر بهذه الرسالة، لذلك لم يكف عن الحلم حتى وهو يهدي آخر أنفاسه للوطن الكبير وللأحباب الحقيقيين على قلتهم في هذا الزمن وذاك…
وردي يحلم ويواصل الغناء الجميل مختتماً الأغنية على إيقاع التمتم الذي يحبه كثيراً ولا تخلو منه أغنياته الطويلة والقصيرة، والموسيقى كادت أن تستلف نغمة شعبية ولكن وردي لا يريد أن يعطل إيقاع التمتم فيمنح الأوركسترا جملة موسيقية مسترسلة ليوظف مقطعها الأخير ويجعله لازمة موسيقية رشيقة تصحبه وهو يغني مشحونًا بالفرح والأمل والطرب.
(10)
بمنتهى التفاؤل يعلن “بناديها وألاقيها واحس باللقيا زي أحلام بتصدق يوم وألاقيها”، وبمنتهى الأمل لا ينفك يحلم “وأحلم في ليالي الصيف بساهر الليل وأحجيها”، وبمنتهى التفاني يذوب مغنياً “أدوبي ليها ماضيها وأطنبر ليها جاييها”، وبمنتهى الوفاء والرجاء يناجي”برسل ليها غنوة شوق وأقيف مرات والوليها”، وعمر الدوش يردد… ووردي يصدح:
وأناديها.. وأناديها.. وأناديها.. وأناديها.. وأناديها
وأنا… وأنت…. وكلنا بلا شك نناديها.
ويصدح النداء بصوت وردي قوياً عميقاً في الضمير وإلى الأبد وسيتمدد الوطن ظلاً وريفاً بالأمل والرجاء والتحدي بمثلما كان يحلم عمر الدوش.. وبمثلما غنى وردي… والنداء لا ينقطع ولن ينقطع.. وهو فوق ذلك جرح نبيل ينزف حباً للوطن.. وما أجمل وأعظم من الوطن إلا الوطن نفسه.. وآه يا وطن.. رحم الله الإنسان الفنان عمر الطيب الدوش الذي كنا (نناديه) الدوش وستظل ذكراه وإبداعاته تنادينا وتنادينا.
بناديها
وبعْزِم كُلّ زول يرتاح
على ضحكَة عيون فيهَا
وأحْلم اني في أكوان
بتْرحَل من مراسيها
عصافير
نبّتَت جِنْحات
وطارت
للغيوم بيهَا
مسافرِ من فرح لس شوق
ونازِل
في حنان ليهاَ
أغنّي مع مراكب جات
وراها بلاد حتمْشيهَا
واحزَن لي سُفُن جايات
وما بْتلقَى البِلاقيه
بنادِيــــــهَا
ولمّا تغيب عن الميعاد
بفتِّش ليهَا في التاريخ
وأسأل عنَّها الأجداد
وأسأل عنّها المستقبل
اللسّع سنينو بُعاد
بفتِّش ليها في اللوحات
مَحَل الخاطر الما عاد
في شهقَة لون وتكيَة خط
وفي أحزان عيون الناس
وفي الضُّل الوقَف ما زاد
بناديــــــهَـا
وألاقيـــــهَــا
وأحِس بالُلقيا زي أحلام
حتصْدِق يوم
وألاقيــــــهَــا
وأحْلًم في ليالي الصيف
بَسَاهر الليل
وأحجِّيـــهَــا
أدوبي ليهَا ماضيهَا
وأطنْبِر ليها جاييــهَا
وارسِّل ليها غنوَة شوق
وأقيف مرات واْلُوليهَا
بنادِيـــــــــهَــا
وبناديــــــــهــا
وبناديـــــهــا