عبد الحفيظ مريود يكتب..  المرأة السّمينة

في جدّة، المملكة العربيّة السُّعوديّة، عام 2015م، كنتُ أحاولُ الاغتراب. جرّبته قُرابةَ الثلاثة أشهر، لكنّني فشلت. وهو واحدٌ من فشلٍ كبير ما أزالُ أتخبّطُ فيه. كان الوقتُ صيفاً، والأحزانُ كبيرة. لقيتُ أستاذاً بجامعة أمّ القرى في دعوة عشاء سعوديّة. قدّمني إليه صاحبُ الدّعوة على أنّني كاتب سيناريو لا يُشّقُّ له غبار، أنجز أفلاماً كبرى لصالح قناة الجزيرة وقنواتٍ أخرى. الرّجل رحّب بي، وشرعَ يعرضُ عليَّ تحويل رسالته للدّكتوراة إلى فيلم وثائقيّ. فيما بعد أعطاني نسخةً منها. رسالته كانت عن الخزرج، الذين شكّلوا مع الأوس، مجتمع الأنصار في المدينة، مما هو معروف في كتب السّيرة. قال إنَّ الخزرج تشتّتوا، فيما بعد، في ثلاث دول هي مصر، سورّيا والسُّودان. وإنّه سافر مستقصياً أمر هجرات الخزرج في هذه الدّول، متتبّعاً المصادر التي وقعتْ بين يديه، وخارطة الحركة. جاء إلى أربجى في الجزيرة، والكثير من مظانّ وجود الخزرج، في الولاية الشمالية. مقارناً الأنساب والتواريخ وغيره، وفقاً للمنهج الذي استخدمه. كانتْ رؤيته أنْ يجعل من خزرج كلّ دولة فيلماً قائماً بذاته، ولنبدأ من السُّودان. أعجبتني الفكرة والمشروع. لكنَّ القلق الرّصين، قادَ أقدامي بعيداً عن السّعوديّة التي أحببتُ، وانتهى المشروع، هناك تماماً.

ليستِ المرّة الأولى التي يطلبُ أكاديميّ عربيّ تحويل بحثه عن الهجرات العربيّة إلى السّودان إلى عملٍ وثائقيّ. صادفتُ ثلاثة، على الأقلّ. الذي يهمُّ هنا هو وجود هذه الدّراسات المهمّة، والتعامل معها على انّها جزء من معرفتنا بذاتنا. ليستِ الهجرات العربيّة وحسب، وإنّما مطلق الهجرات إلى السُّودان من شتّى البقاع. أكبرتُ موسوعة الفاتح علي حسنين، ذات الأجزاء الثلاثة، عن الأنساب والعوائل المغاربيّة في السّودان. فذلك عملٌ عظيم يقدّم المغرب من ليبيا حتّى موريتانيا. فيه الكثير من المعلومات القيّمة. مثل عمل د. عبد الله عبد الرحمن عن هجرات الفولانيّ إلى السّودان واستقرارهم في المناطق المختلفة، تصاهراتهم والعوائل التي نشأت نتيجةً لذلك. قبلها حاول “البرقو” أنْ يوثّقوا هجراتهم إلى السُّودان وإسهاماتهم، لكنّه عملٌ لم يكتمل.

ثمّة الكثير من الأصول التي شكّلتِ السّودان الرّاهن. وفي ذلك قوّة لا شكَّ فيها. نحتاج إلى الاستيثاق منها، معالجتها واستيعابها لتصبح جُزءاً من المعرفة الوطنيّة التي نربّي عليها الأجيال القادمة. مثل هذه المعارف هي التي تكسرُ الانحيازات والشحناء النّاشئة من تصنيف الآخرين. كسر الثنائيات وتدمير مراكز الاستقطابات الحادّة.

كتب منزينجر، الرحّالة والمستكشف السويسريّ، عن السودانيين (والسودانيون على وجه العموم، قوم أشداء وصحيحو البدن، ويتميّزون بالبساطة واللطف والكرم. وحتّى العرب بينهم تخلّصوا من قسوتهم وعنفهم المتأصّل في السّودان). وهي ملاحظاتٌ ترجمها بروف بدر الدّين الهاشميّ، من السّودان في رسائل ومدوّنات، ضمن الجزء 12 من عمله الثر “السودان بعيون غربية”. ملاحظة منزينجر عن “عرب السُّودان” الذين تأثّروا بالسُّودانيين، وتخلّصوا من قسوتهم وعنفهم، ذكرتْ لي ماما ربيكا، أرملة الرّاحل د. جون قرنق، في جوبا رأياً له، شبيهاً بذلك. إذْ قالتْ إنّ د. جون لا يعتقد أنَّ العرب السُّودانيين “لا يزالون عرباً، فقد صاروا سودانيين، تماماً. لقد أصبحوا جزءاً منّا”. وهي نظرةٌ بعيدةٌ جدّاً في مشروع بناء الذات الوطنيّة، وهو شئ نحتاج إليه بشدّة في مُقبل سنواتنا.

المهم هو أنْ نعرفنا أكثر، لنفهمنا أكثر، لننجز ما نتطلّعُ إليه. فالفيدراليات السياسيّة، أثبتت هشاشتها كثيراً، وعند جيرانٍ قريبين لنا. نحتاج انْ نبنيَ وطناً بوعيّ عميق ومعرفة مكينة. لا بالتقاسم والالتحامات الفضفاضة، والوجود المشترك الكاره لنفسهِ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى