عبد الحفيظ مريود يكتب.. أوْ تِرِكْ
سألتُ الدّكتور أحمد الياس حسين، ذات يوم، عن الآثار العظيمة غرب منطقة خور أربعات في ولاية البحر الأحمر، ومطلق الآثار هناك، لماذا ليستْ حاضرةً في ثبتِ مصادرنا المعرفية للآثار السّودانية القديمة؟ لماذا لم تأخذْ حظّها من التعريف والاشتغال عليها، حتّى ليبدو شرق السُّودان مجهولاً، أو قلْ أقلَّ حضوراً في الذّاكرة التأريخيّة القوميّة؟ سألني إنْ كنتُ أحبُّ أنْ يجيبني بصراحة، فقلتُ “نعم.. بالتأكيد”. قال “ذلك ببساطةٍ شديدة لأنَّ الخواجة لم يتطرّق للأمر. ورثتِ النُّخبةُ الغردونيّة انشغالات الخواجة، الذي لقّنها المنهج العلمي والأكاديميا، عموماً. وما وقعَ خارج اهتمام الخواجة، فليس بذي بالٍ، مطلقاً”.
ما الذي يجعلُ شخصيّة البجاويّ/ الهدندويّ ممتلئةً أنفةً وعزّةً أكثر من أيّ شئ آخر؟ هل هي أصالةٌ وطبعٌ مكينٌ، أسهمتْ في ترسيخه أمجادٌ تليدةٌ، قبل أنْ يجور الزّمان، وتصبح وجوداً هامشيّاً في الحياة السُّودانيّة؟ أم هي فعلٌ تعويضيٌّ لكون الهدندويّ يشعرُ بأنَّه مُضطهدٌ وأقلّ قيمةً من غيره فيعمل على تعويض النّقص بالتكبُّر والأنفة الزّائدة؟ في وقتٍ سابقٍ، حين كان الخواجة يريدُ أنْ يحكمَ – ما شاء الله من أجل – بلادٍ مثل السُّودان، كان يكلّف علماءه من الأنثروبولوجيين، والمُؤرّخين وغيرهم ليستكشفوا تضاريس وملامح المُجتمعات التي يطبّق عليها أحكامه. كيف يسوسُ ثقافاتٍ مختلفةً عنه، وكيف يحصل على ما يريدُ منها، دون أنْ يتكبّد عناء المُواجهات المكلّفة. بمعنى إلى أيّ مدىً عليه أنْ يعتمد على القوّة النّاعمة، التي توفّر له أكثر مما توفّره القوّة الصّلبة.
في الواقع لا تبدو معرفتنا كسودانيين ببعضنا محلّاً للفخر والمُباهاة. بل العكس تماماً، إذْ يبدو جَهلنا ببعضنا عَائقاً أكبر مِمّا نظنُّ ومحلّاً للخجل والاستحياء. فحينَ تصرُّ الحكومةُ المركزيّة بعد ثورة ديسمبر، وهي في مرحلة الانتقال، على استمرار تعيين صالح عمّار والياً على كسلا، ضاربةً باعتراض الإدارات الأهليّة، وتجمّع نظارات البجا – مثلاً – عرض الحائط، فذلك يعني أنّنا بعيدون جدّاً عن معرفة طبائع المجتمعات التي نريدُ أنْ نقدّم لها الخدمات، وليس أنْ نحكمها. فالمصلحةُ المحلية أولى من تحقيق مصالح الأحزاب الصفويّة القابعة في الخرطوم. لكنَّ إصرار حكومة حمدوك، على ذلك، كلّفها غالياً وهو سقوط هيبتها تماماً، قبل أنْ تتراجع وتسحب صالح عمّار. خسارة هيبتها تلك، هي التي جعلتِ البجا، يصرّحون – تحدّياً – أنّهم في انتظار لجنة وجدي صالح، لتفكيك “تمكين النّاظر تِرِكْ”. وهو شئ لا يستطيعُ وجدي ومنّاع وغيرهما أنْ يقدما عليه. فالحكومة التقليديّة هناك أقوى من الولاءات الأخرى. فَضْلاً عن أنَّ مظلمات شرق السُّودان تجعلُه على استعدادٍ ليغامر أيَّ مغامرةٍ كبرى، في سبيل إثبات ذاته، وصحة وجهة نظره. إذْ ليس عنده ما يخسره، صراحةً.
أضرَّ منهج الخواجة بالنّخبة الغردونيّة التي تمتْ تهيئتها للحكم، ومَنْ يتّبعُ خطواتها اللاحقة، بأنْ صرفها عن تدبُّر ودراسة بيئاتٍ ثقافيّة معيّنة، حتّى تتساعدَ في تقديم المُساعدة لها، ومن ثمّ استقطابها في المشروع الوطنيّ. ويقف شرقُ السّودان نموذجاً بليغاً على حجم الضّرر والتّدهور المريع في تجميع شتات الوطن، وبناء ذات قوميّة متّسقة. قد ترى الأجيال الجديدة أنَّ ذلك عهدٌ انتهى. وقد سمعتُ منهم ذلك في كثير من النّقاشات والونسات. لكنّ الواقع يكذّب ذلك. يتعاملُ الجيل الجديد مع السُّودان كلّه على أنّه الخرطوم، كما فعل بعضُ أسلافهم من الحمقى، وهو ما سيوردنا موارد الهلاك والفتن والانقسامات. بالنّسبة للبجا – سادة الشّرق – فإنَّ “تِرِك.. مِرق”. لن تختلف وجهاتُ نظر الأجيال الجديدة من القابعين في شرقهم. ويبدو تِرِك/ محمّد الأمين تِرِك، ناظر عموم الهدندوة قمراً بجاوياً مكتملَ البهاء والصّلابة. تِرِكْ في لغة الهدندوة، البداويت، تعني “قمر”.