عبد الحفيظ مريود يكتب.. أفاطمُ، مهلاً، بعض هذا….
لا يُشبهُ الحزنُ حزناً آخر، كما يُشبهُ الحبُّ حُبّاً آخر. ذات الشّخص، تتعاوره حالاتُ الحبّ تكراراً، حالاتُ الحُزن، الفقد والفرح. بيدَ أنّه لن يكون ذات الشخص في كلّ مرّة. يأتي كلُّ حبّ بمناخاته، شروطه، مواجده وأفراحه. ومثله الفقد والحزن. تظنُّ الذّات أنّها تعرفُ، كسبت خبرةً في التعامل مع الحالات الشبيهة، لكنَّ الحالات لا تُشبهُ بعضها. تماماً مثل انتظارك لمولود جديد. بعد عشر ولاداتٍ، مثلاً. لنْ تشبهُ الولادةُ هذه، ولا المولود خبراتك السّابقة. فهل تكمنُ العلّةُ في الذات، في الحالات، في الوعي بالذّات والحالة؟ أمْ ليس شيئاً من ذلك كلّه؟
قال بابيلو نيرودا: “أحبُّ بهذه الطّريقة لأنّني لا أعرف طريقةً أخرى للحبّ”. وهو ما يُشيرُ إلى رفض الذّات لحالات الحبّ التي تأتي خارج شروط معرفتها بالحبّ، فهل يتغيّر الحبّ، من حيث هو انهمام الذّات بآخر، وانغماسها في تفاصيله، ونزوعها إلى التواجد معه، كتميمٍ لها، تكميلٍ لنقصها الأبديّ؟ يدفعُنا إلى الحبّ – ابتداءً – تلك المنقصة، اللا – اكتفاء، قبل أنْ يتعيّنَ شخصٌ ما، ويأخذ مكانه في الوهم والظّنون، أو في الواقع على أنّه مكمّلٌ لها. على أنَّ تصاريف العلاقة هي التي تصيّرُ الآخر صنواً، كفؤاً، توأماً أو تبعده خارج دائرة الاهتمام كلّيّةً. ويتوقّف كلُّ ذلك على الاستجابة المتبادلة للطرفين، المحبّيْن، إذْ لا ينفعُ استعداد واستجابة فرديّة. في حين تذهبُ بعضُ الخبرات والثقافات المجتمعيّة إلى نقيض الفكرة تماماً. كون أنْ تكون النقطة الفيصل في الحبّ هي “ليس أنْ تجدَ الشخص الملائم، وإنّما أنْ تكونَ الشّخص الملائم”، وفيها ما فيها من تجريدٍ لمخاطر “الأنا” التي تعملُ، باستمرار، على إخضاع العلاقات، الكائنات، الشُّروط لمزاجها ورضائها. وهي هنا تعملُ على أنْ تكون مصدر سعادة الآخر، تلغي وجودها الأصليّ وتنسحب إلى ظلّ المحبوب.
في أغنية “أندريا”، التي أشهرتها نانسي عجاج، وهي بعض نفحات دار حَمَرْ في غرب كردفان، تقولُ النّاظمة “كان ما الصبرْ تكليف.. مِنْ بيتكم ما بقيف”. التي تعبّرُ فيه – هذا البيت – عن الحمولة الثقيلة التي يلقيها الدّين، الأخلاق، والمجتمع على المحبّ حتّى لا ينفّذ ما يعتقد أنّه سعادته المطلقة. المعنى شائعٌ في الشّعر السّوداني، العربي، ومطلق الأشعار في جميع اللغات. ذلك أنَّ التجربة الإنسانيّة من حيث هي واحدة، تتنوّع طرق التعبير عنها، وتستجيبُ للإكراهات والشّروط البيئيّة وغيرها. لكنَّ النّاظمة تعبّر عن ما تريده، من حيث تقف. وما تريدُه هنا هو التردّد على بيت المحبوب، في الوقت الذي يشكّلُ فيه التواجد الدائم، المستمر، تحت أيّ صيغة، الهدف النّهائيّ للحبّ. وما تطلبُه، ويمنعُها عنه “التكليف” قد لا يشكّلُ عائقاً في بيئاتٍ ثقافيّة أخرى.
أوشو يجيبُ على السؤال: “لماذا تصرُّ دائماً على سلوك الطريق الصّعب؟” بأنْ: “ومَنْ قال إنّني أرى طريقيْنِ، أصلاً؟”. وهو – في النّهاية – يطابقُ نيرودا، يشكّلُ موقفاً أحاديّاً مبنيّاً على خبرة الذّات بالحبّ، لا ترى عنه محيداً. لا يمكنكَ حملَها على التعرُّف، أو تقبّل الحبّ بطريقةٍ مختلفة. وهو موقفٌ في الأصل، ينظرُ إلى ترجمةِ الحبّ الأوّل والكبير في حياة الذّات المفترضة للثبات على الموقف. أنْ تُحبّ فذلك أنّك ستفعل ذلك مرّةً واحدة فقط. هي الأصل. البقيةُ تنويعاتٌ على ذاك الوتر، وهو – غالباً – ما يجعلُ من قصص الحبّ اللاحقة، فاشلةً تماماً. ننخدعُ بأنّنا حصلنا على “حالةٍ” و”شخص” يشبهُ ما نعرفُ، ثمَّ نفيق. ننصدمُ دائماً بالفقد، باللا – اكتمال، بالنّقص الحادّ، لنبدأ دورةً أخرى من البحث عن المُستحيل.