الكرمك.. العودة الطوعية وقصص أخرى
الهروب من نيران الحرب والعودة لجنة الأرض
ما سر ذبح الماشية في رحلة خروج المواطنين من المدينة؟
فرحة بالعودة وحزن لفقر التنمية.. والبحث عن الذهب حاضر
الكرمك: محمد عبد الله الشيخ
الحزن والأسى وقسوة الزمان احاطت بأهل الكرمك في سابق الأزمان، لكنها لم تذهب تلك الحواس المشتعلة لأهل الكرمك الذين يقفون شامخين كأشجارهم لم ينحنوا للرياح، تركوا ديارهم مجبرين ولم يهجروها مختارين بعد أن أصابها قحط الحرب وجدبها فركبوا البيداء والقفار في رحلات العطش والجوع والمسغبة التي كادت أن تزهق أرواح الكثيرين ممن نجوا من آلة الحرب لولا عبقرية ذلكم الضابط الإداري التي بدأت للناس حينها مراوغة وكذب لكن سرعان ما عرفوا قيمتها ونجاعتها كحيلة لا يملك غيرها فصارت تروى كواحدة من عبقريات الإدارة السودانية، حكايات وقصص عشنا بعضاً من تفاصيلها مع الذين عايشوها في الكرمك نسردها عبر هذه المساحة حتى يعلم البعيدون عن ديار الكرمك والقريبون بقلوبهم مدى المعاناة التي عاشها اهلنا في هذه المدينة النابضة بالخيرات.
(الصيحة)، كانت في قلب هذه المدينة لتنقل العديد من القصص والحكاوى عن مدينة أرهقتها الحرب وعادت إليها الحياة مجدداً.
*عم الأمين وقصة الماشية
بدأت حكايتنا مع العم الأمين الذي قال لي: في إحدى مرات الحروب والنزوح الثلاث التي شهدتها الكرمك أنهم بعد أن خرجوا شمالاً صوب الدمازين على مسيرة مائة وستين كيلو متراً برفقة أحد الضباط الإداريين كان هذا الضابط يسجل المواشي (ماعز وضأن) للمواطنين ويغريهم بشرائها بأسعار لا يحلمون بها ويقوم بذبحها وطهيها لإطعام المواطنين على وعد أن يدفع ثمنها بعد والوصول إلى الدمازين وهكذا وصل الناس سالمين ومن حينها لم يعرفوا لذلك الضابط أثراً، يقول الراوي كانت الحكاية في بادئ أمرها شيئا من الاستقبال، لكن عرفنا قيمتها بعد أن استقرت بنا الأحوال)، رحلة التتبع والتقصي للنزوح بسبب الحرب والعودة على أنغام وبشريات السلام.
*الكرم في بيوت القش
حسناً، بعد وصولنا من حاضرة الولاية الدمازين برفقة السيد أمين ديوان الزكاة بالولاية ومديريي الزكاة بالمحليات ومديرو الإدارات التخطيطية بالديوان استأذناهم للتجول حول القرى خارج الكرمك فكانت قرية الشيمي بارشي وكلاوش ولوقي إلى ثلاثة كيلومترات شمال الكرمك حيث بارشي أقربها إلى الكرمك، وعلى بعد واحد كيلو متر كلاوش ثم لوقي على بعد سبعة كيلومترات عن الكرمك أول ملاحظات وسوالنا لمرافقينا (ناصر خربان وسيف ناصر وأيوب عباس عدد من الأطفال بنين وبنات بالذي المدرسي سيراً على الأقدام إلى أين؟ قالوا غلى المدرسة بالكرمك، ألا توجد وسيلة لنقلهم؟ أجابوا بالنفي ثم نساء يحملن الذرة على الرؤوس إلى الكرمك لطحنها هناك ثم عربة كارو يجرها حمار منهك تحمل مريضة إلى الكرمك حيث لا مشفى ولا متجر ولا أي درجة من الخدمات الصحية عدا قابلة، ولاحظنا بيوتاً جديدة وعملاً لتشييد أخرى أفاد مرافقونا أن هؤلا عائدون من النزوح واللجوء هذه القرى رقم تضاريسها الوعرة وتدني مستوى خدماتها بل وانعدامها حتى الماء لا يوجد سوى مضخة يدوية واحدة للقرى الثلاث عند قرية بارشي إلى جانب المسجد الوحيد المتهالك الذي يشكو الزنك فيه الصدأ والتهالك ويشكو قشه وعيدانه التسوس رغم كل هذا إلا أن أهل هذه القرى غير، فهم بشوشون يرحبون بالضيف يسعدهم أن يضيفوك دخلنا البيوت الكبيرة المحمولة على أعمدة الحطب وأرضية القنا على شكل البيدروم عند أهل الحضر ومثلها يبنى (الكر) لحفظ الأغنام من هجمات المرفعين (الذئب)، أما البيوت على هذه الشاكلة تبنى بسبب ارتفاع معدلات الأمطار والرطوبة العالية في فصل الخريف واظنها للمقتدرين والأسر الكبيرة وتبنى عن طريق النفير، يعتمد أهل هذه القرى على الزراعة وكل ما تجود به الغابات من حطب وثمار التبلدي والعرديب وقطع القنا والسعف والصيد له طقوس احتفالية كبيرة يخرج رجال القرية الى أماكن الصيد ويعودون بما جادت به رماحهم.
*سعادة العودة لخور البودي
قرية خور البودي الى الجنوب الغربي من الكرمك، حيث بدأت القرية تعود وتتشكل على أنقاضها قبل الحرب يتعرف الناس على ديارهم بوجود الأشجار دون الآثار، حيث لا أثر لدار قديمة ويعمل الناس في نشاط وهمة لتنظيف الأرض من الأشجار والحشائش تنقصهم حتى أبسط الأشياء لنظافة الأرض (الفؤوس ومعدات الحفر)، بالرغم من ذلك فسعادتهم بالعودة لم أرها في ساكني القصور، كانت خور البودي تتقاسم الظلم والنقص والعدم في الخدمات بعدالة مع غيرها من القرى فلا مدرسة، لا مشفى، لا متاجر لأبسط الأغراض اليومية لا شيء غير رمزية أرض الجدود وعزتها والارتباط الوجداني بها، لذلك بقي العيش خارجها حتى في الكرمك القريبة خيار المكره هكذا كان كلام الحاجة خميسة أميلي العائدة من الدمازين إلى ظل شجرة بخور البودي تاركة زخم وضوضاء المدينة الى أرض جدها كما فهمنا (مرقت في ٢٠١١ مرقتني اليد الطويلة (تعني) الحرب وعدت إلى أرض أبوي وجدي ما في زول يمنعي)، خميسة لا تملك شيئاً من حطام الدنيا وعرضها الزائل تطلب فقط أن يصلها شيء من الخيام والمشمعات التي وزعها ديوان الزكاة، إلى جانب خَميسه تجلس زوجتان لرجل كادح، لهما من البنين والبنات ستة وعشرون، بعضهم بالمدارس في الدمازين مع جدتهم لأمهم وآخرون معهما، تريد آمنة وأختها أن يجتمع شملهما بالأبناء.
*تشتيت الشمل
يقول المواطن عثمان قبايل إسماعيل، إن المنطقة عانت النزوح ثلاث مرات في العام ١٩٨٧ والعام ١٩٩٧ والعام ٢٠١١ تفرقت الأسر بين الدمازين وأثيوبيا، الناس بدأت العودة لكنها تحتاج مزيدا من الخيام والمشمعات و(العناقريب)، نطلب ديوان الزكاة أن يكمل ويمنح البقية لأن الناس محتاجة، ونحتاج كذلك لطاحونة لا توجد طاحونة بالقرية هكذا جاءت أيضاً مطالب الشيخ يوسف الذي قال لنا إن من تروهم رفضوا اللجوء إلى إثيوبيا وواجهوا صعوبات وضغوطاً كثيرة لكن فضلوا الموت (اخير نموت مع أهلنا. القاتل والمقتول سوداني أفضل من اللجوء القهري الى إثيوبيا وديوان الزكاة هو الوحيد الذي وصلنا
أما هنا في قرية بشير نوقو التي تبدو عند أهلها كأنشودة عذبة بأرضها الطيبة والمعطاء كسر للارتباط الأزلي يقول الشيخ إبراهيم يس موسى شيخ القرية: نزحنا في العام ٢٠١١ قليلون جداً دخلوا إلى المعسكرات بأثيوبيا والغالبية ظلوا بالأراضي السودانية عدنا الآن إلى أرضنا وهنالك ستة وأربعون فقط في معسكر تنقو بإثيوبيا يريدون العودة، ولكن هنالك صعوبات، ويحكي الشيخ باسي مرارة أيام وسنوات بعد رغد العيش ويسر الحال بقرية بشير نوقو، وأشار إلى أن الحرب ذهبت بكل تفاصيل حياتهم الجميلة وأصبحت المنطقة الآن (خلا)، والآن عدنا لنعمر بلدنا، نشكر الجيش الذي منحنا خمس عربات وساعدونا في النظافة ــ والحديث ما زال لشيخ القرية ــ نحن منتجون كنا نمد الكرمك بالخضر والفواكه ولم نمد إيدنا لأحد لكن الحرب افقدتنا كل شيء كنا ندفع الزكاة واليوم نريدهم الآن أن يقفوا معانا.
*العودة هي الخيار الاستراتيجي
عباس عقيل أحد أعيان بشير نوقو، قال: العودة هي خيارنا الإستراتيجي لكنها تحتاج لوسائل إنتاج واستقرار، ونحن نمثل مصدر إنتاج في المجال البستاني لنا أرض خصبة، لولا القوات المسلحة وديوان الزكاة ما استطعنا العودة، متطلباتنا فقط ما يحفظ كرامتنا.
قرية ديم منصور، تبدو فيها صورة العودة الطوعية أكثر وضوحًا ورسوخاً، لعل ذلك بفضل النشاط التعديني الذي عاد على إثره السوق بالقرية وزاد عدد السكان، الآثار وبقايا المباني الثابتة دليل على قدم المنطقة واستقرارها في الماضي آثار لطاحونة ومبنى منهار جزئياً إلا أنه ما زال مستخدم مع بقاء الشفخانه أو المستشفى كما يقولون ربما هنالك مدارس لم نصل إليها كما علمنا لاحقاً، السوق في ديم منصور عامر بالكثير من الاحتياجات رغم قلة عدد المتاجر العاملة بعضها من القش والمواد المحلية وأخرى قديمة كقدم المنطقة مبنية بالطوب، لحظنا حركة نشطة لتشييد البيوت وتنظيف الأرض كدليل على اطمئنان الناس بالسلام رغم النواقص العديدة وعسر الحال كما يقول الزبير البدوي (عدنا ونحن نفترش الأرض بلا غطاء ولا فرش ولا سراير نحتاج طاحونة لنا المستشفى نظفناها ولدينا ممرض نملك مخزوناً من دقيق الذرة نوزعه على الأسر يوميًا ولنا تنسيقية للعودة الطوعية، ويقول الزبير: عدنا الى ديارنا لنستقر ولن نغادر مرة أخرى.
*البحث عن الذهب
جولتنا بالسوق شاهدنا بعض من يحملون أجهزة كشف الذهب ومتاجر عامرة بالبضائع وقفنا عند متجر محمد عامر من أبناء مدينة سنجة قال إن الوضع آمن ومستقر كذلك ذهب محمد الناير صاحب متجر صغير وأنيق من القش يعرض بضائعه بصورة جاذبة تحدث عن الاستقرار والعمل.
في طريق عودتنا من ديم منصور الى الكرمك استأذنتنا الأخت التومة دفع الله لنأخذها في طريقنا إلى مجموعة من المساكن في المسافة بين ديم منصور وبشير نوقو، حيث توجد والدتها المريضة لناخذها إلى الكرمك تجاذبت أطراف الحديث مع التومة سألتها عن أحواض صغيرة في القرية بقطر نصف متر أو تزيد قليلاً قالت هي مناطق لاستخلاص الذهب حيث تعمل هي وأخريات من القرية يجلبن التراب من مناطق (بنقلي وبرفا وادقلا)، يتعرفن على ما يحتويه من ذهب بواسطة جهاز الكشف الذي يأخذ صاحبه ألف جنيه على كل جرام سألتها عن الأمن في تلك المناطق أفادت التومة أن تلك المناطق بها جماعة (تعني الطرف الآخر غير الموقع على اتفاق سلام جوبا) لكنها قالت ما بسألو (زول) (مرات يسألوك بالرطانة لو فهمت يعرفو إنك من البلد ويخلوك تشتغل لو ما عرفت يطردوك ومرات ممكن يخلوك تشتغل لكن ما في زول بسأل زول ولا بشيل منو حاجه) سألت التومة عن بقية الأسرة وجذورها قالت إنها من ديم منصور وإن والدها له جنينة كبيرة كانت تنتج المانجو واللارنجا والبرتقال. هذا جزء من حصيلة رحلة للصيحة امتدت لأيام أربعة في مدينة الكرمك وريفها.