“لا أحدَ يُغيّرُ العالم من السُّوق العربيّ”. العبارةُ منسوبةُ إلى المحبوب عبد السّلام، ساخراً من مجموعةِ الإحياء والتّجديد، التي تتخذُ من شقّةٍ في السُّوق العربيّ مقرّاً لها. ومع أنَّ الكثير من الشّكّ يحومُ حول الرّواية، إلّا أنّها سخريّة لذيذة، متمطقة. فالواقعُ أنَّ هناك صورةً نّمطيّة لمراكز “الإشعاع الثّقافيّ” – كما يسمّونها – التي تضطلعُ بأدوار عظيمةٍ في “تغيير العالم”. أقلّها أنْ يكون مقرّها في نمرة 2 أو العمارات. وأنْ تتبع نمطاً من البرمجة والأدبيّات. أمّا أنْ تكون قارّاً في السّوق العربيّ، فذلك مما يشجّعُ على السّخرية، إذْ تستهوى روّاد السُّوق العربيّ قضايا ملحة، ليس من بينها تغيير العالم، أو إشاعة الفكر والمعرفة.
العبارة المشكوك فيها تشبه إلى حَدٍّ كَبيرٍ السلوك السياسيّ للقوى الفاعلة في السّاحة هذه الأيّام. إلى درجة أنّك تُصابُ بالدّوار إنْ حاولتَ أنْ تمسك جُملةً مفتاحيّة في أيّ شئٍ. دعْ عنك فكرة أنْ تحدّد الأفكار الرئيسية التي يدور حول الجهد السّياسيّ والفكري وبالتّالي التنفيذي للجهاز الحكوميّ، الذي هو وليدٌ للاتّفاقات السياسيّة بين القوى المشكّلة للحاضنة في الوقت الرّاهن. وهو توهان يوشك أنْ يكون نقاشات في غير موضعها، ولغير أهلها، مثل تغيير العالم. فقد قالتْ وزيرة الخارجيّة د. مريم الصّادق المهديّ، في تصريحاتٍ نقلتها وكالةُ السّودان للأنباء، بأنَّ هناك نقاشاتٍ مع المسؤولين السُّعوديين على تحويل البحر الأحمر لساحةٍ تنموية لاجتثاث الفقر وجذور الإرهاب وحفظ الأمن.
الكلام الكبير الذي قالته وزيرة الخارجيّة السّودانية، يجعلُنا – تماماً – في قلب السُّوق العربيّ، نناقش أفكار كانط، ديكارت، الغزاليّ، ابن رشد، جاك دريدا وغيرهم. ما هي علاقة وزيرة الخارجيّة بالقضايا التي عرضتها، من جهة. ومن جهةٍ ثانيةٍ، كيف يتسنّى فعل ذلك انطلاقاً من البحر الأحمر، كمكان، وإرادات سياسيّة تتشاركُ وتتنافسُ عليه، بتمييز للدّولتين المتباحثتين؟ على أنّها ليستِ المرّة الأولى التي يدور فيها مثل هذا النّقاش بين السّودان والسّعوديّة. فقد جرى بحث مثل هذه القضايا مع وفودٍ إنقاذيّة على مرّ السّنوات. دون أنْ تكون هناك “مخرجات” واضحة. ذلك أنَّ البحر الأحمر ليس سبباً رئيسياً أو ثانويّاً في الفقر الذي يضرب أغلبُ البلدان المطلّة عليه. وإنّما تتباعد تلك الأسباب عنه، بصورةٍ لا يُمكنُ أنْ تغفل عنها ملاحظات أيّ باحث. فضلاً عن قضايا الإرهاب، والتي يتمُّ فيها جرجرتنا مفهوميّاً، للدّرجة التي نصدّق فيها أنَّ تعريف أمريكا والغرب للإرهاب هو الصّحيح، فنجرّم – بناءً على ذلك – ونعاقب حركاتٍ تحرّرية ملء السّمع والبصر، كحزب الله اللبنانيّ، حماس الفلسطينيّة، الحوثيين، ويجري الاتّفاق على جماعة الإخوان المسلمين.
هل تستغفلنا المباحثاتُ السّودانيّة السّعودية؟ هل يجري تضليلُنا ههنا؟
العوالق بيننا واضحة. والزّيارة تستهدف قضايا محدّدة، ذكرها الوزير السّعودي الأسبوع الماضي في التوجّهات السّعودية للاستثمار في السُّودان، زراعة وثروة حيوانية وغيرها من الموارد. وهو توجّه بدأه الملكُ الرّاحل عبد الله بن عبد العزيز. كما لا يخفى أنَّ الزّيارة تمّتْ بناءً على وعودٍ حملها مساعدُ وزير الخارجية في زيارته تلك، تتعلّق بالمساعدات المنظورة، و”الرّقعة” المرتجاة، لا سيّما وأنَّ البلاد وجهها باتَ يلعنُ قفاها.
لا شكّ أنَّ حكومتنا هذه، تحاولُ تغيير العالم من السّوق العربيّ، فعلاً. مثلما تفعلُ حاضنتها، أو مجموعة حواضنها السياسيّة المُتراكبة. من المُنتظر أنْ تكونَ تصريحاتُ وزير الطّاقة عن الإمداد الكهربائيّ هي الفصل الأوّل في الملهاة هذه، إذْ كيف تتطلّع إلى استثمار كبير، تبشّر به وتعدُ بتأثيره على الواقع، في ظلّ وعودٍ مؤكّدة من وزير الطّاقة باستمرار قطوعات الكهرباء، التي هي ألف باء الاستثمار؟.