بقصيدته العجيبة واللطيفة التي غنّت بعض مقاطعها المطربة اللبنانية هيام يونس، نقلاً عن المطرب السعودي الأعظم، طلال مدّاح، جعل الشاعر أمرؤ القيس لحرف الكاف، جرساً له صليلٌ ورنينٌ وقعقعة.
أتذكرون الأغنية التي ذاعت عند السودانيّين في تسعينيّات القرن الماضي، باسم “تعلّق قلبي طفلة عربية”، وكيف أبدعت المطربة في أداء بعض أبياتها الوعرة من شاكلة:
“فكَم كم وكم كم ثم كم كم وكم وكم/ قطعتُ الفيافي والمهامِهَ لم أمل/ وكافٌ وكفكافٌ وكفّي بكفّها/ وكافٌ كفُوفُ الوَدقِ من كفّها انهمل/ فلَوْ لو ولو لو ثم لو لو ولو ولو/ دنا دار سلمى كنت أول من وصل/ وعن عن وعن عن ثم عن عن وعن وعن/ أسائلُ عنها كلّ من سار وارتحل/ وسل سل وسل سل ثم سل سل وسل/ وسل دار سلمى والربُوع فكم أسل/ وشنصِل وشنصل ثم شنصل عَشَنصَلٍ/ على حاجبي سلمى يزين مع المقل”.
قد يقول قائل، إن هيام يونس تنطقها طِفلة، بكسر الطاء. والصحيح: طَفلة بفتح الطاء، بمعنى الفتاة الناعمة غضّة الجسد، لا الشافعة الصغيرة غير المُكلّفة بأدواء القلوب ومتعلّقاتها.
أعرف ذلك، ولكن هذا ليس موضوعنا، لأن قائلاً آخر سيفتي في الفقرة التالية بما هو أغرب!
قال أحد النقّاد، إن أمرؤ القيس، سيّد شعراء الجاهلية، لا يمكن أن يهوي من قمته لينشد (تعلّق قلبي)، المنسوبة إليه ظُلماً بما فيها من أبيات ركيكة مثل: “أَلا لا أَلا إلاّ لآلاءِ لابثٍ/ ولا لا ألا إِلا لآلاءِ من رحَل”.
كيف يهبط من “عُلاه الفوق” وهو صاحب: “قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ”، وهو من أنشد في حبيبته فاطمة العنزية:
“أفاطم مهلاً بعض هذا التدلّل/ وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي/ أغرّك منّي أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعل”.
هبوط أمرؤ القيس أو صعوده أيضاَ، ليس موضوعنا، لأن هدفي من كل هذه (اللولوة)، استعارة جرس (الكاف والكفكاف) للحديث عن سحر بعض مفردات لهجتنا السودانية الجميلة!
شغفي بالألسن واللهجات واللكنات السودانية، دفعني إلى التقاط الكثير من المفردات التي لا تجد لها رديفاً في لغات أخرى، وقد قالها الشاعر سيد أحمد الحاردلو: “حديثنا إذا أردتو رُطان/ وحين دايرين نسويّ بيان”.
في قروب (واتس آب) شرّفني بصحبة نخبة من مثقفي البلاد و(وادي النيل)، وردت مفردة (وآ شريري). عندها، (تكلّبت) حسّاسات الذائقة اللّغوية عندي ثم سبحت في كل الاتجاهات، كأذرع أخطبوط عملاق وقع في شباك صيّاد عنيد.
سريعاً، انفضّ سامر القروب عن (وآ شريري) بعد بضع تعليقات، أجمعت على جمال وفرادة المفردة و(بس)، قبل أن ينصرفوا عنها إلى حلبة ساس يسوس بالعصي الغليظة والأنفاس اللاهثة وتركوني وحيداً في محطة (وآ شريري)، استدعي أشعار صديقي السر عثمان الطيب وهو يعالج في (تلُوت الليل)، واحدة من (هجر) وهجرات عصافيره العنادل، ولم يجد مدخلاً يلج منه إلى قلب القصيد غير أن يستهلها بـ(وآ شريري)!
قال السر عثمان الطيب: (وآ شريري رحل تلُوت الليل/ مغستي رحل تلُوت الليل/ شقاوتي رحل تلُوت الليل/ مسالكي ضلمة ما بتنشق/ مشيت لا زاد أشيلو معاي ولا زولاً معا اترفق”.
عالج شيطان السر الشعري، أحاويل عصفوره الذي (فرّ عنه ومضى)، بمفردته الساحرة (وآ شريري)، وأبدعها الفنان محمد جبارة، عزاءً وسلوى للمحبيّن الحُنان، “من الذين: لا بنسُوا لا بتحوّلوا”.
وكأنه أدمن تعاطي عقار (وآ شريري)، للتداوي من داء الهجر والنأي والأشواق، وظّف السر عثمان الطيّب، كلمة السر وهو يناجي أمه زينب بت مُحمد ود أحمد، قال: “وآ شرّي يا زينوبة ولدك في بحور الشوق كتل”.
ولم تنس ساقية الشاعر حمّيد أن تسأل: “لامتين يرجع يعود من غربتو؟/ زولاً رحل.. وآ شرّي، طوّل من مفارق أحبتو”.
وغنّى أحمد فرح لإسماعيل حسن: “يا حليلك.. يا بلدنا/ يابا ود حاج/ ويابا ابنعوفْ/ يابا تور الزّومة العطوفْ/ ود حجر يا راجل الدفوفْ/ ود بليل في مورا معروف/ الحقوني أنا لِمّو الصفوفْ/ قصدي لى قُببكم أشوفْ/ يا بلدنا أزورك وأطوفْ/ حليلي أنا/ شريري أنا”.
ووصلاً لشغفي باللهجات السودانية الحميمة، تعالوا نتوقف مطولاً عند تعبير: (بتاً.. كُوْ)، بلسان أهلنا البقّارة، وتدل على النفي القاطع، وبقوة (بتاتاً) الفصيحة، وإن شئت بلهجة الوسط: (كلّو كلّو)، وتقابلها عند الشايقية مفردة (ضُمّة). وأوردها الفنان محمد كرم الله في أغنيته: “يا المشتهنّك وفي غيابك بالنا بيك ضُمَّة انشغل”. وقال إسماعيل حسن: “مهورِن غالي ما بقدر عليهن/ وحاتك ضُمّة ما بقدر عليهن”.
ولا ينسى السودانيّون عبارة: (مرقنبو قرنبو) التي أذاعها الكوميديان محمد موسى مُجيباً على سؤال طالبة في داخلية للطالبات لزميلاتها: أين سريري الذي كان هنا؟!
ردّت عليها طالبة ريفية: (مرقنبو قرنبو).
والترجمة: (البنات مرقن بيهو للحوش عشان يقرن ويذاكرن الدروس).
نخلص إلى أن الكثير من المفردات والتعابير السودانية الغميسة، تأتي قاطعة، معبرة وقوية و: (بتّاً.. كُو). وتأتي مختصرة ومفيدة وشارحة، مثل: (مرقنبو قرنبو). ومعبّرة عن الحنان والشفقة والحب والأسى والاحتواء والمواساة، فتكون: (وآ شريري).
ثم تكون: (كُوْ.. كلاماً كَيْ)، والتي تزجر الكلام الذي لا يستقيم ولا يعكس الحقيقة، وتعيده إلى جادة الطريق، ثم إنه العنوان الذي لا يحتاج لشرح.
الصورة المرفقة للصديق الشاعر السر عثمان الطيب ووالدته الراحلة زينوبة.