عبد الحفيظ مريود يكتب.. حسن التُّرابي
لو أنَّ جعفر نميريّ، الرّئيس الأسبق، حكمَ على حسن التُّرابي بالإعدام، في قضية رّدَّة، أو أيّ رئيس آخر، كما فعل نميريّ مع محمود محمّد طه، لكانَ الكثيرون يتذكّرون الآن، ذكرى رحيله الخامسة. فقط لأنَّ ثمّة ميلاً فطريّاً لدى السُّودانيين للتعاطف مع “الضّحيّة”، دون بذل أدنى جهدٍ لمعرفة تأريخها، “كسبها” المعرفيّ والسياسيّ وغيره. ذلك أنَّ “الضحيّة” دائماً، “تُحنّنْ” قلوبهم وتستدر عواطفهم. لكنْ شاءتْ أقدارُ الله أنْ يمضيَ حسن التُّرابيّ إلى ربّه كما يذهبُ عادة النّاس، بعلّةٍ “لم تُمهله طويلاً”، كما درجوا في كتابة النّعي. من المهم جدّاً، في ذكرى رحيل التّرابيّ أنْ أشيرَ إلى قصص. مجرّد قصص وحكايات.
كان عثمان البشير الكبّاشي، وهو رجلٌ ماهرٌ في الحكي، دقيق الملاحظات، دائماً ما يُشيرُ إلى أنّه لو كان هناك أحدُ السُّودانيين، وأهل الحركة الإسلاميّة، خالياً من العنصريّة والجهوية، بحقّ، فإنَّ ذلك الشخص هو حسن التّرابيّ. لرُّبّما يخرج شخصٌ لصيقٌ آخر، يحكي ويلاحظ نقيض ملاحظة الكبّاشي، هذه. التجانيّ عبد القادر، مثلاً. لكنَّ ما يهمّني هو تثبيت ملاحظة الكبّاشي هذه. بصورةٍ جادّة، لا أحبُّ العنصريّة والمتعنصرين. على عكس سيرةٍ حائمةٍ عنّي – الشّخص المسكين الفقير إلى الله – تأتيني بين حينٍ وآخر. ولو لم يكنْ للتُّرابيّ غير “لا عنصريّته” هذه، لجعلته جديراً بالحُّبّ. في السّكة حديد، حيث نشأنا، من الصّعب أنْ تجد لك انتماءً جهوياً أو قبليّاً. عرفنا كلَّ ذلك بعد أنْ غادرنا السّكة الحديد. تلاميذ التُّرابيّ اللصيقين، داخل وخارج السُّودان، هم الأجدر بالكتابة عنه. ربّما ومن زاملوه في المضامير التي استبقوا فيها، سياسةً وتدريساً وفكراً. لكنَّ محبّةً خاصّةً، لا وقتَ لتفصيلها، تلزمني بالكتابة “المتشوبرة” عنه، في زمنٍ ينكرُ فيه الخليلُ خليلَه، كسباً للوقت، وربّما لأشياء أخرى.
صديقنا عثمان أحمد علي، أو عثمان عطبرة، كان قد أطلقَ عليه لقب “النّقَر”. على أيّام مهارات مصطفى النّقر العجيبة. يمسكُ بالكرة، فتوقن أنّها هدفٌ في مرمى الخصم. كانتْ أولى الأهداف الكبرى للتُّرابيّ في مرمى السياسة السُّودانيّة، هي أنْ “قلع” كُرةَ السّياسة من أبناء أمدرمان. فقد كانتِ “البقعة” الطّاهرة، تستحوذ على السياسة تماماً. يدفعُ السُّودان كلَّه، ثمن خلافات أبناء أمدرمان: الأزهريّ، عبد الله خليل، محمّد أحمد محجوب “بتصرّف في أمدرمانيته”، جعفر نميريّ، منصور خالد، الصّادق المهديّ، هاشم العطا، عبد الخالق محجوب ….الخ. مصالح، توجّهات، مستقبل السُّودان كلّه ينحصر بين مقابر أحمد شرفيّ شمالاً، و”بانتْ” جنوباً. تتصارعُ “النُّخبة” الأمدرمانيّة وتتلقّف بقية أطراف السُّودان فتافيت نزاعها المتبقية على مائدة العشاء. لكنَّ التُّرابيّ/ النّقر، جاء وأخذ الكرة من أبناء أمدرمان، مفسحاً المجال واسعاً للرّيفيين، حفاة الأقدام، مشقّقيها، المصرّين على ارتداء ملابس أكبر من قياساتِهم.
قراءةُ “كسب” الرّيفيّ، القادم من الجزيرة إلى جامعة الخرطوم، لندن وباريس، العائد ليسهمَ بقوّةٍ في قلب موازين القوى السياسيّة والاجتماعيّة، لا يجب أنْ تكونَ من منطلق “الخازوق” الذي ركَّبَ البلاد فيه لثلاثين عاماً، ما ينفكّ وجدي صالح يفكّكُ تمكينها. التي دمّرتْ مشروع الجزيرة، السكّة حديد، فصلتِ الجنوب، أشعلتْ مشكلة دارفور وعزلتِ السُّودان ثلاثين عاماً من “المجتمع الدّوليّ”. بل يجب أنْ يُقرأ كسبُه بأدواتٍ أرفع وأعمق من ذلك. ذات مرّةٍ حضرتُ “كباية شاي” في حديقة صحيفة “التيّار”، كانتِ المتحدّثة طبيبة ذات اهتماماتٍ جندريّة، قدّمتْ مسرداً في تحرير المرأة السُّودانية، وذكرت كلَّ من أسهم في هذه “العملية المعقّدة”، ولم تأتِ على ذكر حسن التُّرابيّ. الإنصاف يقولُ إنَّ للرّجل دوراً بارزاً في تحرير المرأة والدّفع بها للمشاركة في الحياة العامّة، لا ينكره أحدٌ. ومثلما قال أنجلو بيدا للمنصورة مريم الصّادق ذات مساء في إحدى قاعات المجلس الوطنيّ “يا بتي سيطان ساتو “ذاته” لو أمل “عمل” هاجة كويس، قولْ أمل هاجة كويس”. والتّرجمة للأجيال الجديدة التي تسمع “عربي جوبا”، ولا تميّز الإستوائيين من النّيليين.