سراج الدين مصطفى يكتب: جديات العسين .. أغنية ظلمها محمد الأمين!!
نقر الأصابع
سراج الدين مصطفى
جديات العسين .. أغنية ظلمها محمد الأمين!!
قلت من قبل أن محمد الأمين توقف عن ترديد أغنية (جديات العسين) والأسباب تبدو مجهولة لغير المتابع لتجربة محمد الأمين عن كثب.. وهذه الأغنية صحيح أنها ليست في مقام الأغنيات ذائعة الصيت لأنه لا يرددها دائماً ولكنها تعتبر من الأغنيات الجميلة ذات التأليف اللحني البسيط الذي يجنح للتمعن في ثنايا الكلمات بعيداً عن زخم طرائق المؤلفات الموسيقية من تراكيب هارمونية ومركبات ولازمات معقدة.
تمادى البعض في وصف الأغنية بكلمات جارحة من شاكلة أنها (أغنية قليلة أدب).. وهذا في تقديري ظلم كبير لهذه الأغنية لأن هناك أغنيات سودانية كثيرة حوت ذات التعابير مثل أغنية لحظك الجراح والتي وردت فيها تعابير رمزية ولكنها أكثر حسية ووضوح.. ولعل كلمة تفاح التي وردت في الأغنية:
فى الظلام متيم وليلي ابقى صباح
تعبت الاصفاح وطرفي جافى النوم
من طيب عبيرو الفاح
بين عيونو صفاح
وفي بسيمو عقد الدر
وفى صدرو جوز تفاح
مفردة تفاح تعني أو تماثل تماماً كلمة (نهودا) التي وردت في أغنية جديات العسين .. وهناك الكثير من النماذج يمكن الاستدلال بها لأنها بذات المعاني.. أغنية (الزول السمح فات الكبار والقدرو) هي أيضاً بها تعابير تشابه كلمة نهودا.. مثل المقطع الذي يقول:
السبب الحماني العيد هناك أحضرو
درديق شبيكك المنتو في صدرو
والمعنى هنا أيضاً واضح.. وإذا كان قياس الأدب وقلته بتلك الطريقة والمواصفات فيمكن أن نطلق على الغناء السوداني عموماً بأنه (غناء قليل الأدب).. لأن معظم أو جل الأغاني مليئة بالتعابير التي تدعو للحسية والمباشرة، وهناك الكثير من الإشارات للغة الجسد ولكن يتم التحايل عليها بطرائق مختلفة.
ليس من حق محمد الأمين ــ في تقديري الخاص ــ أن يتوقف عن ترديد أغنية جديات العسين لتلك الدعاوى الخالية من أي فكر ومن يطلقون مثل تلك التعابير هم حملة لواء التقليدية وعدم القدرة على التجديد.. وبما أن محمد الأمين هو رائد من رواد التجديد يتبقى عليه أن يعاين للمشهد بعين متأملة وفاحصة وعميقة لا تتوقف في مثل الترهات والوقوف عند أصحاب التشوهات العقلية.
جديات العسين ملمح غنائي تراثي عميق.. فهي تعتبر نموذجا باذخاً على جودة مربعات شعر الدوبيت التي كتبت في أزمان قديمة.. ولعل الممازجة التي صنعها محمد الأمين منحت الأغنية صك الجودة وأبعدتها عن الذين يلوثون شعر الدوبيت من بعض المحدثين الذين راجوا في الصحف هذه الأيام وهم يفتقرون لأبسط مقومات كتابة شعر المربعات الذي هوى الى درك سحيق.
والمتمعن في كلمات أغنية جديات العسين يجدها تحتشد وتمتلئ بالصور والخيالات البديعة والأفكار المتجاوزة لحال السائد والراهن.. ونجدها أيضاً تكتنز بالقدرات اللغوية والتلاعب بالألفاظ كما في هذا المقطع:
أريل شام شروق شراكي ما نشابك
وشم نفسك يفوق مسك العشاري الشابك
عشبة بان قسي المن فريق نقادا
أرضه البان قسي ديسا المهضلم قادا
يا خالق القسي بدلة منام لرقاده
جديات العسين كأغنية احتشدت بالتصاوير الكثيفة.. واللغة الحميمة التي لها قدرة على التآلف والمؤالفة.. وهذا البعد الوجداني العميق أكثر ما يتضح في هذا المقطع:
يا خالق الوجود أنا قلبي كاتم سره
وما لقيت من يدرك المعنى وبيهو ابره
قصبة منصح الوادي المخدر دره
قعدت قلبي تطوي وكل ساعة تفرو..
وكما ذكر الدكتور الفاتح حسين في دراسة له عن محمد الأمين وقال (تجربة الفنان محمد الأمين تعبر عن المبدع الذي ارتبط بوجدان شعبه مستفيداً من تراثه وتشبع به منذ نشأته الأولى بمدني، إضافة إلى وعيه المبكر بدارسة النوته الموسيقية وعلوم الموسيقى الأخرى مثل القواعد والصولفيج ومهارته العزفية على آلة العود.
أصبح محمد الأمين بإبداعه الغنائي ومدرسته الفنية المتجددة والجدديدة رقماً وأحد الأهرامات الفنية في البلاد مشكلاً وجدان الشعب السوداني، ومن هذه المكانة الفنية والتي أحرزها بعد معاناة منذ بدايته الأولى ونالها بكل جدارة من خلال ما قدمه من إبداع جعلت كل الأوساط الفنية ترشحه كواحد من أساطين الغناء في السودان وفي الوطن العربي..