تقرير- نجدة بشارة
ثمة نكتة قديمة عن معتوه يبحث عن مفاتيحه تحت عمود إنارة في الشارع العمومي، يصادفه شخص ويعرض عليه المساعدة، ثم يسأل المعتوه بعد عدة دقائق من البحث إن كان واثقاً من المكان الذي فقد فيه مفاتيحه، فيرد: لست متأكداً تماماً، لكن هذا المكان الوحيد التي توجد فيها إنارة”.
بهذه المفارقة تحاول العديد من الحكومات محاربة الفساد والفاسدين في الدولة.. بالبحث تحت أضواء الشفافية وملفات دواوين المراجع العام في حين أن الظلمة تغشى من يختبئ في العتمة تحت ستار المحسوبية والشللية وتترك بذلك كومة من الفاسدين.. وربما هكذا يبدو ظاهراً للعيان كيف تحارب الحكومات المتعاقبة في السودان الفساد؟ فتقع بسهولة تحت دوامة الفشل.. والآن وفي ظل الحكومة الانتقالية وتعهداتها بمحاربة الفساد يتساءل متابعون عن هل تملك الآلية والمفاتيح لمحاربة استشراء الفساد أم ستظل تبحث تحت عمود الإنارة الوحيد في الشارع العمومي؟.
مقياس الانتشار
قد يبدو للوهلة الأولى أن الفساد كلمة بسيطة المعنى رغم ما تحمله من معانٍ وممارسات تزكم الأنوف، لكن على مستوى العالم وفي خطاب ألقاه عام 1996، رئيس البنك الدولي آنذاك جيمس وولفنسون شبه الفساد بالسرطان، قائلاً: “إن الفساد يحوّل الموارد من الفقراء إلى الأثرياء، يزيد من كلفة إنشاء الأعمال التجارية، يحرّف مسار الإنفاق العام.
ولعل السودان كان قد صنف ضمن الـ10 دول الأكثر فساد في العالم وذلك وفقاً لمؤشر مُدركات الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية في 2011، كان ترتيب السودان 177 من أصل 183 دولة من حيث الفساد، ووفقاً لإحصائية مؤشرات الحكم الدولية التي أجراها البنك الدولي، والتي استخدمت مقياساً يندرج تحت 100 نقطة، أحرز السودان رقماً بين الـ0 والـ10 في كل خانة تم التطرق إليها، ومن مؤشر مُدركات الفساد الذي أُصدر عام 2013، كان ترتيب السودان 174 من أصل 177 دولة. لكن في الجانب الآخر ووفقاً لمتابعات (الصيحة)، فان فترة حكم الرئيس المعزول البشير شهدت تفشياً ظاهراً للفساد بكل ألوانه، حيث تقدر بيانات مستقلة الخسائر المباشرة وغير المباشرة للفساد، الذي ارتكبه النافذون في الدولة وحزبها خلال الأعوام الثلاثين الماضية بنحو تريليون دولار.
تعهد حكومي
منذ أن تسلمت الحكومة الانتقالية مقاليد السلطة وضعت مسألة مكافحة الفساد في مقدمة أولوياتها وشكلت لجنة خاصة لاسترداد الأموال والأصول المنهوبة من قبل عناصر النظام السابق، (إزالة التمكين)، ومؤخراً بدأت الحكومة تخطو خطوات فعلية في استئصال الفساد، وتعهد النائب الأول لرئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي” بمحاربة الفساد وأن حكومة الفترة الانتقالية تعمل في تناغم وانسجام تام من أجل العبور بالبلاد والعمل على استغلال الموارد التي يزخر بها السودان.
وفي ذات السياق، أكد الدكتور عبد الله حمدوك رئيس الوزراء، أهمية مشروع التحول الرقمي الذي يعمل على محاربة الفساد وضبط أداء الدولة.
إنشاء مفوضية
يشير المحلل السياسي د. عبد الرحمن أبوخريس إلى أهمية إنشاء مفوضية للفساد كما سبق وأوصت به الحكومة.. وقال لـ(الصيحة)، إن الدولة تحتاج إلى تفعيل القوانين والتشريعات التي تنظم وتقنن وسائل المحاربة.
وفي السياق.. كانت مصادر قد كشفت لـ(الصيحة) عن قرب إجازة قانون مفوضية الفساد، الذي يوجد حاليا بمنضدة مجلسي السيادة والوزراء، ورجحت المصادر أن يُجاز القانون خلال اليومين القادمين. وكانت وزارة العدل قد أعلنت في بيان، أن المواطنين يُمكنهم الاطلاع على مشروع قانون المفوضية القومية لمكافحة الفساد لسنة 2020 ومشروع قانون مفوضية العدالة الانتقالية لسنة 2020 ومشروع قانون مفوضية السلام لسنة 2021 من على الموقع الرسمي لوزارة العدل في الركن الخاص بالوثائق والمستندات.
تقنين المؤسسات
ويرى أبوخريس أن تصريحات المسؤولين تطلق للاستهلاك السياسي ولا تكفي لمعالجة قضية الفساد ما لم تتم محاكمات عادلة. وقال: لا بد من بناء المؤسسات القضائية التي تكفل المقاضاة العادلة والشفافية فيما يتعلق بقضية الفساد ولا تكفي مصادرة الممتلكات فقط كما يحدث في لجنة إزالة التمكين.. لكن في ذات الاتجاه عبر خبير قانوني ــ فضل حجب اسمه ـ لـ(الصيحة) عن تشاؤمه من إمكانية الحكومة الحالية من القضاء على الفساد الذي وصفه بالمستشري في جسد الدولة وقال إن الحكومة الانتقالية وجهت أدوات المحاربة عبر الاعتماد على لجنة إزالة التمكين التي ومنذ إنشائها عمدت إلى مصادرة ممتلكات رموز النظام البائد دون أن تقدم أحد الرموز لمحاكمة عادلة لأحد الأشخاص الذي يعتبر فاسداً وفقاً لقرارات اللجنة.. وأوضح أن مثل هذه الممارسات قد تولد الغبن لجهة مصادرة الحقوق دون وجود بينة واضحة أو وجود محكمة دستورية ليحتكموا إليها. ويرى أن الفساد كلمة هلامية وفضفاضة لا يوجد مقياس ثابت لقياس نسبة التغول على المال العام، وأن غياب الجهاز التشريعي الرقابي فاقم من زيادة نسبة الفساد في الدولة.
ولعل وزير العدل نصر الدين عبد الباري سبق ووصف الفساد بأنه أكبر معوق للدول، مطالباً أن تحظى مفوضية مكافحة الفساد بصلاحيات رقابية واستقلالية، واعتبر أن الفساد يحرم ذوي الكفاءات من المساواة أمام لجان الاختيار، ويحرمهم فرص الوصول ليتقلدوا مناصب تمكنهم من أن يلعبوا دورهم في الإسهام لتنمية البلاد. وطالب في ذات الوقت أن تحظى مفوضية مكافحة الفساد بصلاحيات رقابية واستقلالية، وألا تخضع لأي جهة تنفيذية في جهاز الدولة..
لكن، هل سوف تتحقق أمنيات وتطلعات الجهات العدلية بالبلاد.. هذا ربما ستكشف عنه الأيام القادمة.