لم تكن نهاية عهد الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة هي الخاتمة التي كانت تُليق به، على الأقل لا يتحمّل مسؤولية ما جَرَى خلال السنوات الماضية التي كان بفعل المرض مُغيّباً عن السُّلطة ودهاليزها وصناعتها، لقد حكموا من وراء ظهره وجعلوه واجهةً لسُلطويين خربوا بلادهم باسمه وعاثوا فيها فساداً ورئيسهم شبه ميِّتٍ على كرسي مُتحرِّكٍ، غابت عنده الدنيا وتيبس الموت في عظامه..
كان عبد العزيز بوتفليقة من قيادات حركة التّحرُّر الجزائرية، وعندما ظهرت جبهة التحرير كان من قياداتها الشباب في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، مُقاتلاً في الجبال على الحدود الغربية، وثائراً، جمّرته سنوات النضال، لم يبلغ الثالثة والثلاثين حتى تبوّأ منصب وزير الخارجية مطلع الستينيات، وكان وقتها أصغر وزير خارجية في العالم، واستمر رفيقاً مُخلصاً ووفيّاً للرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين وزيراً معه حتى وفاة هواري، فتوارى بوتفليقة مع العواصف السِّياسيِّة التي مرّت بها الجزائر واختار المهاجر الأوروبية ما بين سويسرا وفرنسا، ولأنه وَهَبَ حياته لبلده وللنضال المضني فيها لم يتزوّج قط.. عاش عازباً طليقاً حُراً يزين بوجوه ثقافته الرفيعة صالونات السِّياسة العربيَّة المُهاجرة ومُلتقياتها الأوروبية، تلجأ إليه كثير من الجهات الغربية والعربية، طَالبين خبرته ومعرفته الدقيقة بالسِّياسة العربيّة وتلاطمات السياسة الدولية ..
عندما ادلهمت الخطوب بالجزائر عقب انتكاستها مطلع السنوات التسعين من القرن الماضي وانقلاب نخبتها السِّياسيَّة المُتحالفة مع الجيش على الديمقراطية التي أتت بالجبهة الإسلامية للإنقاذ، ودخلت الجزائر عشرية العُنف، وهي من أقسى العُقُود في تاريخ البلد المُناضل، الذي قدّم مليوناً ونصف من الشهداء إبان أطول استعمار في العصر الحديث (130 سنة) هي عُمر الاستعمار الفرنسي للجزائر، عندما أطبقت الأرض والسماء على وجه الجزائر السياسي، زحفت إليه أقدام ووجوه السَّاسة والعسكر وأتوا به من مهجره في أبريل 1999م ليكون رئيساً بعد سنوات من الاضطراب والفوضى وانسداد الأُفق وخبو الآمال في نفوس الجزائريين الذين حوّلتهم لعنة العُنف إلى برك دماء لا تُجف ..
عَادَ بوتفليقة إلى الواجهة رئيساً، وعاد معه بريق العهد النضالي العتيق وروح بن بيلا وهواري بومدين تحفه من كل مكان، عادت معه لغته السّاحرة الرصينة وهو خطيب جيِّد العبارة، سهلها وسلسها وعذبها وسلسبيلها، يعرف نظم الكلام وسجعه وبديعه، أعاد للمنبر الرئاسي الجزائري نضارة فقدها في أيّام التِّيه، حتى القمم العربية التي كان يُشارك فيها كانت خطاباته ورنّة صوته وكلماته المُنتقاة واشتقاقات الألفاظ وتوليد المعاني تجري على لسانه مسنودة بثقافةٍ واسعةٍ وإلمامٍ معرفي كبيرٍ ..
قاد الجزائر في أحلك ظُرُوفها، كان محل احترام شعبه، ولذا كان يفوز بنسبٍ مئويةٍ كبيرةٍ في كل ولاية انتخابية أو استفتاء حتى بلغت أربع ولايات رئاسية، صَبَرَ عليه الجزائريون بطبعهم البدوي والجبلي المعروف، علّقوا على عاتقه الآمال فحملها وتحمّل، واستقرت على يديه، لكنه لم يكن يعلم أنّ الجلطة التي داهمته في 2013، وذهب مُستشفياً في باريس سيعود منها ليعيش جسداً وروحاً خارج الزمن الجزائري المضطرب، غيّبوه من هُم حوله، حكموا من وراء ظهره، جعلوه واجهةً لسُلطةٍ باطشةٍ ولفسادٍ التَهَمَ كل شيءٍ في الجزائر نفطها وغازها ودخلها الضخم، وتركيبة السُّلطة في الجزائر مُعقّدة إلى درجة أنّها مثل المُنظّمات والجمعيات السِّرية لا تظهر إلى السطح وتطفو إلا عندما يجتاحها إعصارٌ عنيفٌ يُحاول اقتلاعها من أعماق جُذُورها فلا يستطيع، لكنها تقدّم للإعصار قُرباناً وكبش فداء حتى لو كان القُربان في حجم ومُستوى رئيس…!
بقي في السُّلطة وتلاعبوا به لتكون نهايته على هذه الشاكلة لأنه لم يكن في وعيه، على خشبة المسرح السِّياسي كانت تجرى مسرحية جعلوا من جسده العليل وإدراكه الغائب هو الممثل الوحيد على الخشبة حتى أغلقت الستارة عليه وأُضيئت الأنوار بنهاية العرض، تلاعبوا ببطلٍ من أبطال التحرير وجعلوا نهايته هكذا، حتى يتطلّخ رداء نضال الثورة الجزائرية وشهداؤها العظام التي خرج من رحمها بوتفليقة ..
من حُبِّه للأدب والشعر والغناء، أنّه عندما كان في الخرطوم في مؤتمر القمة العربية (اللاءات الثلاثة)، كان القادة العرب ووزراء الخارجية في منزل رئيس الوزراء محمد أحمد المحجوب بعد ساعاتٍ من المُصالحة التاريخية بين عبد الناصر والملك فيصل وطي ملف الخلافات العربي، يومها غنّى عبد العزيز محمد داؤود أمام الزعماء العرب في صالون المحجوب بعض أغنياته بالفصحى، تَرَكَ بوتفليقة كرسيه وجلس على الأرض، واضعاً يديه على خديه مُتعجِّباً من صوت عبد العزيز محمد داؤود وفصاحة لسانه ومخارج الحروف الصحيحة لديه.. انتهت الأغنية، فسأل بوتفليقة، أبو داؤود وهو مركزاً على لونه وملامح وججه (بالله الأخ عربي)؟ ردّ عليه فناننا الكبير بسخريته اللاذعة… (لا والله محسوبك أفريقي ساكت)…