الحمد لله كثيراً فهذا داء لم نُصَبْ به رغم أن الكتابة من المسببات له، إنه مرض تضخم الذات أو تورمها أو جنون العظمة التي تقابلها (النرجسية).
قابلت نرجسيِّين كثيرين في حياتي وقبل مطالعتي لـمنمنمة رفيعة كتبها الشاعر التونسي منصف المزغني في زاويته الشهرية الراتبة بمجلة دبي الثقافية، لم أكن أدري بأن هناك نرجسيات مبررة وأخرى صرفة تندرج في إطار المرض.
يصنّف المزغني أبا الطيب المتنبي بنرجسي زمانه على خلفية بعض أبيات قصائده: (أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي.. وأسمعت كلماتي من به صمم)، أو ذلك البيت الذي صعدت فيه أنا المتنبي واصطفت مع الدهر (إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشداً) أو ذلك البيت الذي يُغازل فيه أناه (أنا خير من تسعى به قدم). لكن المزغني يبرر هذه النرجسية لأن ما قاله المتنبي أصبح ماثلاً في الواقع فها هو الدهر ينشد شعره بعد مئات الأعوام بما يضفي على نرجسية المتنبي التعافي ويبرزها كنرجسية ذات صدقية.
ويذهب المزغني إلى أن النرجس موجود في حياة كل فرد لكنه يتخفَّى ثم يتجلَّى، ويشير إلى أن ثمة من لا يحتاج إلى إعلان نرجسه لأنه نرجس مغذى كحالة محمود درويش، أو نرجس شبعان كنرجس نزار قباني، أو خجول كالطيب صالح!!
هناك نرجسيات قوية الحجة ومقنعة، لأنّ النرجسية تحتاج إلى ترخيص والترخيص يصنعه الفن كنرجسية المتنبي، وهناك نرجسيات ضعيفة الحجة وغير مُقنعة كنرجسيات السياسيين وهذا (الفصيل) من النرجسيين هو من يحتاج فعلاً للرعاية الاجتماعية والإشفاق والرحمة إذا ترك السياسي مساحة لها في قلوب الناس!!!
نرجسية الكُتّاب والشعراء تختلف عن نرجسيات السياسيين، فالأولى مسنودة بفعل إبداعي، والأخيرة تتوكأ على عكاز الأنا الخارجة من العدم، وقد لاحظت أن معظم النرجسيين السياسيين هم من لا عطاء لهم على صعيد الإنجاز، فمعظم المصابين بهذا الداء يخلو سِجلهم من أي بصمات على نطاقي الأرض والسماء، إن الواحد منهم يزور من كثرة اختفاء معالمه لكن أناهم تكبر حتى لا تجد مساحة فيهم فتنبت خارج ترتبتها النرجسية. إنهم يتعالون على أنفسهم وعلى زهرة النرجس!!.
نرجسية المتنبي المرخصة نرجسية تُسعِد الناس لأن متلقيها يجد متعة في صيغها المبالغة مثل قوله:
لئن تركنا ضميراً عن ميامننا
ليحدثن لمن ودعتهم ندم
ولكن نرجسية السياسي جالبة للتعاسة باستمرار لأنه يمارسها (فوق نفس) الجمهور ويُمارسها على وضد نفسه وكلما سعد بها ضاق بها وكلما تضايق أسعد نفسه وأشقى الجماهير!!
نرجسية الكُتّاب والشعراء قابلة للعلاج لأن مرجعيتها قوة النص أو ضعفه، لكن نرجسية الساسة تعجز عن علاجها الانتخابات رغم أنها الوسيلة الوحيدة والدرجة العالية الرفيعة التي تتيحها الديمقراطية للناس!!
إذا دخل السياسي النرجسي الانتخابات وفاز، فإن نرجسيته تكتسب شرعية، وإذا لم يحالفه النجاح يزعم أنها انتخابات مزوَّرة حتى لو كانت برقابة دولية كاملة وفي هذه الحالة تكتسب نرجسيته شرعية إضافية تمهيداً للانتخابات القادمة، فالنرجسية هي السند الأوحد له وهي اللونية التي تطبع حياته السياسية!
– نرجسية لها علاقة بالنص:
قال سلفادور دالي في مقدمة كتابه عن نفسه: “لكي تكون رساماً لابد من شرطين: الأول أن تكون إسبانياً والثاني أن يكون اسمك سلفادور دالي”!!.