صديقنا مريود، القاصه بديع الحكي هذا المساء أكتب لك تداعيات جاءت هكذا، ورد الخاطر ظنِّي بها أن تكون حقيقة بمساحة في رؤيا التي لها جمهرة من الذائقة، تسيدها حبيبنا الذي لا يأتي إلا مع كل تالِد ولطيف:
وهوى الغادة عمري عادة يجلب الشيب إلى الشاب ألاُحَيْ
هذا هو بيت مولاي ابن الفارض الذي كنت (أكوسه)، بعد أن حل الشيب بي، ففضلت أن أكون حليق الرأس دوماً ولا أرجو وقاراً. و(الاُحَيْ) تعني من كان سواده يضرب الى خضره، وتوطن عند الشعراء الفحول إنَّ الغرام يعجل بالكهولة وملحقاتها من شيب وطمس ملامح الشباب و(دغمسة) العيون:
العيون النوركن بجهرا غير جمالكن مين السهرا
هكذا كان ردّ “أبو صلاح” على مقالة غادة القلعة: (أبو صلاح، أبوصلاح أب عيونن دقاق دا). ونعود لظريفنا “الدينكاوي”، وقد اقترن عندي بذكر مولاي ابن الفارض، فهو كان دائم الترجيع لقوله:
ما بَيْنَ ضال المنحنى وظلاله ضل المتيم واهتدى بضلاله
يرجّع ذلك وصوت رخيم هامس يحمل لك معناه الرقيق، وهو (متوهط) على (بنبر) الشاي، مادّ عنقه، مباعد بين فخذيه، ممدود إليك كله، كأنما يجهد أن يشم وقع مقاله في عينيك. هكذا كان صديقي شَغِفاً بكل ما احتضنت عاقلته من نعيم كلام وقصيد ونثر وحكاية، لا يمكُث عنده إلا نافع وطريف ولطيف. ومعنى بيت مولانا ابن الفارض من مواتع التصوف وعميقه، لا يكتنه دلالاته إلا صاحب قدم في العرفان، وشرحهُ من شرح، وتاقصر عن بعيد معناه ومطويات صوره وجماله. والبيت مدخل لقصيد يهتدي بطرائق القدماء في الوقوف على الآثار والأمكنة التي تهيج الكَوامن، وفي معناه (لغة) نجد أن: (بَيْنَ) ظرف مكان في واضح اللغة، وزمان أيضاً فهي في البيت معربة منصوبة، متعلقة بضال، وذلك من لطيف معنى مقال شيخنا، و(الضال) نوع من شجر السدر، و(المنحنى) موضع و(الضلال) خلاف الهدى. وأن تهتدي بضلالك شيء معروف عند أهل التصوف، فالله إذا أحب عبداً من خلقه، (يسوقه) إليه بحاجته (أي بحاجة العبد التي يريد، ضالته أو ضلاله). وقد خرج موسى بعد أن قتل نفساً، فوجد بعد رحلة عند النار هُدى، وخلع نعليه. والبيت في خلاصته عِرفاناً يجمع بين مقام السدرة والفناء: (انمحاء العبد في جلال الربِّ)، ويقال ضَلَّ الشيء في الشيء أي غاب فيه، وضَلَّ الماء واضَلَّلَه أجراه بين الصخور والأشجار، وهكذا سيدي “الدينكاوي” أصبحت ذات مولاي ابن الفارض بعد أن بلغ مقام السدرة للكمل، هي ذات (ليلى)، فعرف نفسه وعرف ربه. والصورة مأخوذة بتمامها من ظلال قوله تعالى: (إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى)، وورد في تفسير الآية أثر من الموضوعات قيل فيه: (ليلة عرج بي أنتسخ بصري في بصيرتي فرايت الله). وشاهد (الحديث) هنا من باب إجْلاَءِ مطويات بيت شاعرنا ومولانا ابن الفارض، وليس من باب اليقين به. أنا هنا استرجع حديثنا صديقي محمد يوسف الدينكاوي، في واحدة من جلساتك تلك المفتونة بابن الفارض، قلت لك: قد خبَّر شيخنا عني وقت قال:
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سر أرق من النسيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أملتها فغدوت معروفاً وكنت مُنكَّرا
وكان ذلك غبَّ (حلم ليلة صيف)، نهضت بعده لأكتب في الناس، كتابي “السرانية مقال في عقيدة الباطن” وكان المسطور الذي عرفت به “قبل الكوشي التائه”، و”موت وثن”. ألا رحم الله الإمام الشيخ أبو حفص وأبو القاسم عمر بن أبي الحسن بن المرشد بن علي المعروف بابن الفارض قدس الله سره، وأسكن صديقينا (الدينكاوي) مع من أحب من آل بيت النبوة وأدام ذكره وذكرك، ولك الاحترام كله.
أخوك
ميرغنى أبّشر