نحنا كسودانيين وكغيرنا من بلاد العالم نمر ببعض التغُيُّرات، والنوازل المُدْلَهِمَات، خاصة ضيق الحياة المعيشية وغلاء الأسعار وقلة الخدمات وكثرة الأعباء، وإن كنا بحمد الله ننعم بنوع من الأمن يفتقده الكثيرون، ونعيش في وضع أحسن حالاً من هو دوننا أو أشد ضيقاً، وفي ظل الوضع الراهن من ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة.. تفاجأ أكثر السودانيون خصوصا المثقفين.. بخبر.. تعويم الصرف.. تباينت فيه أقوال الناس، وتنوعت مواقفهم وتفرقت كلمتهم، فهم في تعاطيهم لهذه الخطوه أصناف وألوان ويذهبون في تحليلها وتوصيفها مذاهب مختلفة كل ينظر من زاوية.
والعاقل الموفق يزن الأمور جميعاً، وينظر إليها بذهن فاحص، وعقل حاضر، وقلب مخلص، دون تأثر بالأهواء القلبية أو الأغراض الشخصية أو الأهداف الخفية. لأن السودان لنا جميعاً لا نريد أن يمس بلادنا وشعبنا أي مكروه، فلذلك تجد الحادبين والمخلصين من أبناء هذا البلد دعواتهم لن تتوقف طرفة عين.. اللهم أصلح حال بلادنا ليس لنا مفر أو ملجأ غير وطننا مهما ضا قت الأوضاع..
*ومن هذه المساحه أذكّر أئمة المساجد تذكير المصلين بكثرة الدعاء لهذا البلد عسى الله أن يرفع عنا البلاء والغلاء والفتن والمصائب.. خصوصًا في ظهر الجمعة، وهناك ساعة مستجابة الدعاء بعد عصر الجمعة.
وبالله التوفيق..
نعود لموضوع التعويم.. أولا… الشريعة جاءت بجلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، فهي تَكْفُل للناس معاشهم ومعادهم، ومن هنا كان توفير متطلبات حياة الناس من طعام وشراب ومأكل وملبس وعلاج من أَجَلِّ المقاصد، وكانت رعاية مصالحهم من الضرورات الرئيسة التي هي: حماية الدين، والنفس، والمال، والعقل، والنسل.
*والدولة مسؤولة عن السعي لتوفير العيش الكريم، والعمل لمصالح الناس ما أمكنها ذلك، ومن قواعد الشريعة: “تَصَرُّفُ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ”.
* قال السيوطي: “هَذِهِ الْقَاعِدَةُ نَصَّ عَلَيْهَا الشَّافِعِيُّ فَقَالَ “مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ مِنْ الرَّعِيَّةِ مَنْزِلَة الْوَلِيِّ مِنْ الْيَتِيمِ”، ثم قال السيوطي: “وَأَصْلُ ذَلِكَ.. وذكر حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ” إنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ وَالِي الْيَتِيمِ ، إنْ احْتَجْتُ أَخَذْتُ مِنْهُ فَإِذَا أَيْسَرْتُ رَدَدْتُهُ فَإِنْ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ “.
وهو أثر صحيح يرسم المنهج السليم لتعاطي الحكام مع الأموال.
ثانياً: جرت سنة الله الكونية على ربط الأسباب بمسبباتها، وقرن الأمور بنتائجها وثمراتها، والنظر في الأسباب والمسببات، والنتائج والمآلات يعين صاحبه على حسن التوصيف وجودة التشخيص وحسن المعالجة.
* وغلاء الأسعار وضيق العيش من هذه الأمور، له أسباب بعضها قدري كوني محض، وكثير منها كسبي بشري، وهو لا يخرج عن قدر الله الكوني، فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
فالغلاء قدر من أقدار الله النافذة في عباده وقد يقع امتحاناً وابتلاءً، قال الله تعالى: [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ]، [البقرة : ١٥٥_١٥٧].
* قال العلامة ابن تيمية: “فَالْغَلَاءُ بِارْتِفَاعِ الْأَسْعَارِ؛ وَالرُّخْصِ بِانْخِفَاضِهَا هُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا خَالِقَ لَهَا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ؛ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ لَكِنْ هُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ بَعْضَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ سَبَبًا فِي بَعْضِ الْحَوَادِثِ كَمَا جَعَلَ قَتْلَ الْقَاتِلِ سَبَبًا فِي مَوْتِ الْمَقْتُولِ؛ وَجَعَلَ ارْتِفَاعَ الْأَسْعَارِ قَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ ظُلْمِ الْعِبَادِ وَانْخِفَاضِهَا قَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ إحْسَانِ بَعْضِ النَّاس”.
* إهـ من مجموع الفتاوى (٥٢٠/٨).
* وقد أصاب خيار هذه الأمة مجاعة وفقر حتى أكلوا ورق الشجر وهم يجاهدون في سبيل الله كما في حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: “بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً – قَالَ – فَقُلْتُ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا قَالَ نَمَصُّهَا كَمَا يَمَصُّ الصَّبِي ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلَى اللَّيْلِ وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ”.
أخرجه الشيخان.
* وأصاب الناس غلاء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: “غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ، القَابِضُ، البَاسِطُ ، الرَّزَّاقُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ”.
أ خرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وهو حديث صحيح.
* وفي حديث عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال عام الرمادة: – وكانت سَنةً شديدةَ مُلِمَّة بَعدما اجتَهد عُمر فِي إِمداد الأعرَاب بِالإبِل والقَمح والزَّيت مِن الأريافِ كُلِّها حَتى بَلَحَت الأريَاف كُلُّها ممَا جَهدها ذَلك – فَقام عُمر يَدعو فقال: “اللهُمَّ اجعَل رِزقَهُم عَلى رُؤوسِ الجِبال”، فاستجاب الله لَه وللمسلمين ، فَقال حِين نَزل به الغيث: “الحَمدُ لله فَو الله لَو أن الله لم يُفرجها مَا تَركتُ أَهل بَيتٍ مِن المُسلمين لَهم سِعةً إِلا أَدخلتُ مَعهم أَعدادَهُم مِن الفُقراء فَلم يَكن اثنان يَهلكان مِن الطعَام عَلى ما يُقيم واحداً”.
رواه البخاري في الأدب المفرد وهو صحيح.
ثالثاً: من الغلاء ما سببه المعاصي والذنوب: الحاكم والمحكوم في ذلك سواء، فالشرك والكفر والمعاصي والمنكرات أسباب جالبة لضيق العيش وغلاء المعيشة وذهاب النعم وحلول النقم، قال الله تعالى: [وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ] [الشورى : ٣٠]، وقال: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى] [طه : ١٢٤]، وفي حديث ابْنِ عمر رضي الله عنه، قَالَ: “وَمَا طَفَّفَ قَوْمٌ الْمِيزَانَ إِلَّا أَخَذَهُمُ اللهُ بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمئونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَمَا مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكَاةَ إِلَّا مَنَعَهُمُ اللهُ الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ”.
أ خرجه ابن ماجه والحاكم والبيهقي في الشعب وهو حديث صحيح.
* قال العلامة ابن القيم: “فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد، فما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصر لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تسلب النعم كلها، قال الله تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)”.
إهـ من طريق الهجرتين (٤٠٨،١).
* أقول: والناظر في بلاد المسلمين يرى أنواعاً من المنكرات الظاهرات ما يخشى منه حلول العقوبات وذهاب النعم وحلول النقم، ومن أخطرها مظاهر الشرك الأكبر من تقديس البشر واعتقاد النفع والضر فيهم والاستغاثة بهم والعكوف على قبورهم وغير ذلك من أنواع الشرك والإلحاد.. ونشر الأفكار المنحرفة في وسائل الإعلام والمناهج الدراسية ونشر البدع وبعض المنكرات كالظلم والقتل وأكل الربا وشرب الخمر والزنا والفجور والتبرج والسفور.
رابعاً: من الغلاء ما سببه سلوكيات الناس كالطمع والجشع واستغلال الضعفاء وابتزازهم . أو تصرفاتهم من ذلك: كالبذخ والتبذير والإسراف والصرف غير المرشد والعبث بالأموال والثروات على كل المستويات: الأفراد والأسر والمؤسسات المدنية والحكومية، والفساد المالي من رشوات واختلاس وقروض هالكة وتوسع في النفقات، وتلاعب بالمشروعات، واحتكار وتصرف في الأسعار وجشع من التجار، إلى أنواع يطول تعدادها.
خامساً: إذا تلمسنا الأسباب كان ذلك مفتاحاً للوصول إلى العلاج، ومما يؤسف له أن كثيرين ممن يعلقون على الأوضاع المعيشية لا يظهر من تعاطيهم معها بحث عن الحلول والمخارج بل بعض السياسين هدانا وإياهم يحب الشماتة وزيادة معاناة المواطن البسيط دون رحمة.. في ظنه عسى أن يجد ضالته في الحكم ولو يموت كل هذا الشعب جوعا.. والله المستعان
ويسعى للتحريض والتحريش، واستغلال الأوضاع وهذا ليس مسلك العقلاء ومن يحملون هم الأوطان.
نواصل..