في مدينة أبييْ (لا أعرف كيف هي مدينة)، قبيل الانفصال، كنّا نقوم بإنتاج فيلم وثائقي عن مستقبل المنطقة. كانتْ هناك نساء دينكا نقوك الجميلات. ونساء الدّينكا، عموماً جميلاتٌ جدّاً. مع أنَّ ذوقي وهوايَ شلكاويّ بحت. قلتُ لابن سلطان الدّينكا نقوك، رحمه الله، كوال دينق مجوك – وكان قادماً لتوّه من أداء فريضة الحج – إنَّ الدّينكا قبيلة كبيرة جدّاً، شجاعة وطموحة، وأغلب الظّن أنَّ د. جون قرنق كان يطمحُ في أنْ يعيد ترتيب البيت السُّودانيّ، وتشكيل ملامحه، انطلاقاً من الاعتداد الدّينكاويّ بالذّات، والشجاعة النّادرة والطموح، فلماذا تتقزّم القبيلة، وتنكصُ عن الحلم الكبير لها، بالدّور المؤثّر، وتقنع بحكم الجنوب، فقط. وتطالب نقوك بالانفصال هي نفسها، نقضاً لمشروعٍ عظيم في التّمازج، امتدّ لأكثر من ثلاثة أجيالٍ؟ قال زعيمُ نقوك، ما معناه إنَّ الظلم والاضطهاد الذي وجدناه من الشماليين، على مختلف مشاربهم، يحملنا على أنْ نقرّر الانفصال، لنعيش بكرامة. قلتُ له وهل لمجرّد أنْ انفصل الجنوب، ستتحقّق الكرامة؟ أمْ أنَّ عليك أنْ تفرض رؤاك، احترامك، كرامتك عنوةً وبمزيدٍ من الأفعال التي تراكمُ الاحترام والكرامة؟ لم يرِدْ خوض جدالٍ مع أحدِ الواهمين، فحسمني فوراً: “هذا هو قرارنا”.
لاحقاً، في جوبا، سألتُ ماما ربيكا، أرملة د. جون قرنق عن موقفها الشّخصي من الانفصال. قالتْ إنّها كانت انفصاليّة، حتّى نهاية التسعينات. لكنّ قرنق أقنعني بالوحدة. مستخدماً منطقاً دقيقاً وعمليّاً. هو هل نترك إرثنا، ومشروعنا، منهزمين نلملمُ جراحنا، اتّقاء المزيد من الجراح؟ قالتْ إنّه كان يؤمنُ بأنَّ هناك الكثير الذي يمكنُ أنْ نفعله مُجتمعين، في هذا البلد. هناك الكثير من الموارد التي لا يحلم بها أيُّ قطر قريب، ستجعلنا دولةً محترمة. لقد قاتلنا طوال سنواتٍ، ليس لأجل الانفصال، بل من أجل الوحدة. وذلك – في ظنّي المتواضع –ما جعله يقاتل التيّارات الانفصاليّة، بقيادة لام أكول وبقيادة رياك مشار وبقيادة كاربينو كوانين وغيرهم. فقد كان منطق لام أكول (الفصيل المتّحد) هو: إذا كنّا سنعملُ على بناء سودان جديد، فلماذا نتحمّل كلفة بنائه لوحدنا؟ لماذا نقاتل نيابةً عن بقيّة السّودان، فيما هم قانعون بما يجري عليهم؟ ومع أنّي أحبُّ الشّلك، والشّلكاويّات، إلّا أنّني أجدُ نفسي مضطرّاً لمعارضة موقف لام أكول.
من يسمعُ د. جون قرنق سيدركُ أيَّ فقدٍ جللٍ فقدنا، وفقدت إفريقيا. التقيتُه مرّةً واحدةً بعد توقيع نيفاشا، وقبيل أدائه القسم نائباً أوّلَ للرئيس المخلوع البشير، في رُمبيك. قبضته تشي بالقوّة والثّقة. حدّثنا قليلاً عن مشروعه. لم يكنْ لأحدٍ من رموز الحركة الشّعبيّة أنْ يستأنفه، أو يطبّقه. ولم يكنِ الشّمال – بطبيعة الحال – جاهزاً ليفهم ماذا يقول الرّجل. لكنَّ محاضراته تكشف عن معرفة عميقة، وراسخة. تجاربه هائلة. يشبهُ بعانخي، على نحوٍ ما. ليس بالطّبع بعانخي المحتكر في أذهان القلّة الجاهلة من النّوبيين.
سمعتُه يتحدّث عن أسرار ثروات السّودان. والرّجل متخصّص في الاقتصاد الزّراعيّ. كثيرون يعرفون ثروات السُّودان، ولكنَّ قلّة من المتخصّصين يعرفون أسرار ثروات السُّودان. جلسنا مرّةً إلى د. محمّد عثمان أبو ساق، وكان عرّاباً لنميري والاتّحاد الاشتراكيّ، وأستاذاً بجامعة الخرطوم، قال إنَّ أكثر من يعرف أسرار ثروات السُّودان هم الأمريكان. وفي تصريحٍ لوزير الخارجيّة الأمريكي أنتوني بلنكن، قال إنَّ “الوجه القادم إلى العالم بقوّة هو السُّودان”، وعزا ذلك إلى الموارد الهائلة، والثروات. وهو بالذّات السّببُ الرئيسي في التوجّه الأمريكي نحونا. نحنُ نعرفُ إمكاناتنا. لكنّنا مثل الكثيرات، نحبُّ دائماً أنْ يؤكّد لنا الآخرون أنّنا “عندنا امكانيات”.