ذلك هو الديوان الأخير للراحل درويش، الصادر عن دار رياض الريس في مارس هذا العام، حين كنت أطالعه كنت أطالع معه الموت، ففي هذه المجموعة الشعرية كان الموت هو الحاضر في كل القصائد، كأنه كان يحس بأنّ الموت سوف يسوقه لعالمه الساكن فيفقده أهم أدوات شعره وهي الحياة كي يكتب الشعر، لذا فهو لا يريد لهذا الشعر أن ينتهي
اقترب الموت مني قليلاً
فقلتُ له: كان ليلي طويلاً
فلا تحجب الشمس عني
وأهديته وردة
فأدّى تحيته العسكرية للغيب
ثم استدار وقال :
إذا ما أردتك يوماً وجدتك
فأذهب !
ذهبيت ……
كان درويش في (الجدارية) يزهو بأنه هزم الموت ولكن في هذه المجموعة استسلم تماماً له، فقط كان يرجو من الموت أن يتأخّر قليلاً كي يتابع قصيدته التي لا تنتهي، ويمتلئ درويش يقيناً بأن موته يتأجّل حين يزور نزار قباني ويجري بينهما هذا الحوار الحي عن الموت
قلت أنت في حاجة لهواء دمشق
فقال سأقفز بعد قليل لأرقد في حفرة
من سماء دمشق
قلت انتظر ريثما أتعافى
لأحمل عنك الكلام الأخير
انتظرني ولا تذهب الآن
حتى نموت معاً
قال انتظر انت.. عش انت بعدي
فلا بد من شاعر ينتظر
فانتظرت وأرجأت موتي
خلال كتابته لهذه القصيدة الديمومية التي يريد لها التسومد ليجعلها خالدةً كالأبد، كان يحس الخوف، الشيء الذي جعله يدخل في تكوين الخوف وأعراضه وكُنه الشُّعور به ووصفته البايلوجية على الجسد وتموجاته وتعريفه ما هو الخوف وبماذا يشعر الخائف
الخوف يُوجع: رجفةُ في الركبتين
وخفة في الالتفات إلى الجهات
تشنج في البطن والعضلات
جفاف الحلق وانخفاض في الكرامة والحرارة
واكتظاظ السقف والجدران بالأشباح
تسرع ثم تبطيء ثم تسرع
في نشاط الروح كي تبقى عنيدة !!
طبعت الدراما الشعرية، الديوان الأخير لدرويش تلك الدراما البسيطة الحَيّة التي طوّرها درويش بالسرد الشعري وأضفى عليها مُفارقة ظلّت تُميِّز نصّه الشعري تلك الدراما التي بدأها بسرحان وصعد بها عالياً بأحمد العربي، تلك كانت روايات طويلة في قصيدة قصيرة، روايات شخوصها بطل أسطوري وشاعر أسطورة ديوانه الأخير الذي لن يكتب بعده، حلّق بتلك الدراما المضيئة وأضاف مفردة جديدة في ذلك التناول، مفردة الحوار الدرامي داخل النص بكل اتّساع الأفق الفلسفي والبُعد الأزلي الذي يسم الحوار العربي الفلسطيني ويجعله مُستحيلاً، لأنّ القاسم المشترك في العلاقة هي العداوة. أسقط درويش ذلك المفهوم ضمن قصيدته التي لا يريدها أن تنتهي في شكل قصة قصيرة جداً، لكن تموجاتها تسمح بطيفٍ مُمتدٍ يقبل جميع التفسيرات يقول السيناريو
أنا وهو
سنكون شريكين في قتل أفعى
لننجو معاً
أو على حدة
ولكننا لن نقول عبارة شكر وتهنئة
على ما فعلنا معاً
لأنّ الغريزة لا نحن
كانت تدافع عن نفسها وحدها
والغريزة ليست لها أيديولوجيا
حين أغلقت غلافي الديوان أحسست بانقباض وبمس كهربائي خفيف وبغصة وآهةٍ فراودتني دمعة على نفسها !!!