(1)
يصف الأديب صلاح هاشم السعيد عطاء الشاعر الراحل حميد الأدبي بأنه “مشروع شعري” لم يكتمل بعد، ولا عجب أن هذا الافتراض محل إجماع كثير من الأدباء والنقاد؛ لأن إشكالية ذلك المشروع تكمن في حب الوطن، ومعاداة ظلم الحاكمين، وتحريض المحكومين على مدافعة الظلم. قد نسج حميد هذه المنظومة الثلاثية في أول قصائده التي أنشدها بعد رحيله إلى الخرطوم، التي كانت تعاني من ظلم العسكر وجبروتهم،
(2)
فجسد موقفه الرافض لحكم العسكر بقصيدته الرمزية الشهيرة بـ “نادوس”، التي نادى فيها ثورة الغلابة، قائلاً: “تعالي وشي الوطن دركان عساكر آخر الزمن واطاه *** تعالي وما علي كيفك تعالي وريِّحي الواطة “. فلا جدال أنَّ هذه القصيدة التحريضية قد جلبت عليه وابل غضب النظام المايوي، فتعرَّض حميد، حسب رواية الدكتور يس محمد يس، “لأسوأ أنواع المضايقات من رجال الأمن والسُّلطة، وهو لا يملك حولاً ولا قوةً”، سوى الكلمة التي صنع منها سلاحاً ماضياً في وجه زبانية النظام المستبد، وجعل من رائحتها باروداً في أنوفهم، عندما استنصر بالغبش الغلابة، قائلاً:
آه يا غبش
ما عندي ليكم غير نغيم
برجوه ينفض لي غبار زمن القسى الكتَّاح
يهز عرجون نخل صبر الغلابة الطال
يحت يخرت تباريح الأسى الممدودة فوق نور الدغش
يا نورة آه
(3)
كانت نورة تشكل أبعاداً رمزية مصفوفة في مخيلة مشروع حميد الإصلاحي، الذي يبدأ بتوصيف المشكلة، وعرضها من جوانب متعددة، بغية خلق نوعٍ من الوعي الجمعي في أذهان الناس، ثم بعد ذلك تبدأ عملية التحريض الثورية الموثَّقة بشارات النجاح التي تشبه في نهاياتها مبادئ جمهورية أفلاطون القائمة على العدل والمساواة بين الناس، وفي رخائها مدينة الفارابي الفاضلة.
(4)
لذلك كانت نورة تعني بالنسبة له الوطن الجريح، وتعني التكافل بين الناس، وتعني التمازج القومي في السودان عندما يناديها قائلاً: “يا بت العرب النوبية… ويا بت النوبة العربية … يا فردة نخوة بجاوية … أو شدر الصحوة الزنجية”، وبذلك يُؤكِّد ما ذهب إليه البروفيسور يوسف فضل حسن: أنَّ قطاعات كبيرة من سكان السُّودان الأصليين تعرَّبت بفضل نفوذ القبائل العربية الوافدة، “واستوعبت البنيات القبلية.