النّكتةُ التي يحبُّ صديقنا الصحفيّ سيف الدّين عثمان أنْ يرويها عن أهله الرُّباطاب والعبابسة، أنَّ رباطابيّاً كُسِرَتْ رجلُه. وكان على ابنته البالغة أنْ ترافقه إلى البّصير. كان البصير عاكفاً على مُعالجة الكسر، ليرجعه مكانه، وحين وجدَ المنطقة التي يتوجّبُ فيها الضغط لتتلاءم الأشلاء المكسورة مع بعضها، قبل أنْ يضغط عليها ويجبرها، ضغط على الوضع العام ضغطةً مُحترمة، فأخرج الرّباطابيُّ ريحاً بصوتٍ جهير، فأراد أنْ يطمس فعلته فقال “يا ساتر”. لكنَّ ابنته الرُّباطابيّة لم تكنْ لتفوّتَ الأمر، فعقّبتْ عليه “نحنا والسُّترة اتفرقنا يابا… إلّا ربّنا يعجّل الشفا”.
كنتُ أسألُ عمّنا محجوب الخليفة، في أبو حمد، وعمّنا الأستاذ عبد البّاسط الحاج، التّربوي القدير في “أمَكِي”، في الرّباطاب عن سرّ “المساخة” المشهورة. كان تعليلهم أنَّ ذلك ذكاء حادّ أكثر منه مساخة. فالرُّباطابي لا يحبُّ البلادة، لا يحبُّ السؤال الغبي، ولا يفوّتُ المُفارقة، مهما كانت صغيرة، يلتقط كلَّ ذلك ويمنحه تعليقاً يكشف حدّة ذكائه، فيراه الأغبياء “مساخة”. راق لي التعليل. أحبُّ الأشياء الدّقيقة، الفطنة والغارقة في الفن حتّى رأسها. فالرُّباطاب قومٌ مسكونون بالفّن، وإنْ بدا لك غير ذلك.
قالتِ الحُرّيةُ والتغيير في صحف الأمس، إنَّها لن تقبل ولاةً عسكريين مُطلقاً. هذا موقفٌ مبدئيٌّ ومُتّسقٌ مع “مدنيّة” المرحلة. في ثنايا الخبر، إنَّ الحريّة والتغيير تُخضع الأمر لمُشاوراتٍ دقيقة على مستوى المركزيّة، وقد تقبل – في مستوىً ما – اضطراراً – بوالٍ أو اثنين أو ثلاثة من العسكريين، وفقاً لتعقيدات الأوضاع في الولايات المُشار إليها. وذلك على خلفية أخبار كانتْ قد رشحتْ بأنَّ المكوّن العسكري صنّف الولايات إلى ولايات هشاشة، وولاياتٍ أمنيّة، والتصنيف الثالث هو – على الأرجح – ولاياتٍ “عاديّة”. واقترح، وفقاً للتصنيف أعلاه، أنْ يتولّى العسكريّون الولايات ذات الهشاشة، وذات التحدّيات الأمنيّة، والتي بلغتْ سبع ولايات، من بينها شمال دارفور، البحر الأحمر، كسلا، وربّما جنوب كردفان. وذلك يعني أنَّ ثمّة تَمَدُّداً عسكريّاً على الخريطة السِّياسيَّة على حساب الحريّة والتغيير التي بشّرتْ أنصارها بالمدنيّة الكاملة الدّسم. وليس أمامها الآنَ إلّا أنْ تطلب – مثل عمّنا الرُّباطابيّ – السّتر، في موضع طلب تعجيل الشّفاء، الذي استدركته ابنتُه الفطنةُ عليه.
لا يمكنُ لأحدٍ عاقلٍ أنْ يجادلَ الآن بأنَّ هناك أوضاعاً في كثير من الولايات لا يمكنُ تركُها للمدنيين. ليس ميلاً وهوىً أعمى. ولكن لأنَّ التعقيداتُ فيها أمنيّة بالدّرجة الأولى، تحتاج – ضمن العسكريين – إلى عسكري واسع الأفق والتّجربة ومنفتح على “عدّة حُقُول”، كما يقول المثقّفون، وإنْ كان وجودُ عسكريّ بهذه الصّفات يشبه العنقاء. وقد قال المعرّي – قُدّسَ سرُّه – “أرى العنقاء تكبُرُ أنْ تُصَادَا”. فالسُّودان المنفتح، حدوديّاً – على دول أكثر من أصابع اليد، والمُضطرب على مُستوياتٍ عدّة، يحتاج أنْ يلجمَ تسيّب المُهرِّبين، يكفَّ يدَ الطّامعين، يؤدّبُ المارقين، بذكاء وانتباه جرى تثقيفه عسكريّاً، ولأمدٍ طويلٍ.
نفس صحف الأمس حملتْ خبراً مفاده أنَّ دولة رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك، صرّح أنَّ الشّراكة مع العسكريين ضروريّة لتلافي العقبات وبناء التحوُّل ومواجهة التَّحدِّيات. لم يكنْ رئيس الوزراء يغفل عن حدود الشّراكة وما تقتضيه. لكنَّ المُصرِّحين بالحرية والتغيير تنقصهم الحصافة والكياسة. إذْ ليس هناك من مباراةٍ حاسمة بينهم وبين العسكريين ليُصرِّحوا في كلِّ صغيرة وكبيرة، فيما لا يزالُ البصير يعالج الكسر. عليَّ، ههنا، كأحد الرّباطاب بالتجنُّس أنْ أردَّ على تصريحات الحرّية والتغيير، أو أعقّب عليها. وأسألُ اللهَ لها أنْ يعجّلَ الشفاء ويجبر الكسر. مدنيااااااااااااااااااو.