عبد الحفيظ مريود يكتب..عربيّة أمْ قطر؟
في روما، عاصمة إيطاليا، كنّا – الزّميل طارق أبو شورة وأنا – نتسكّعُ قبيلَ الفجر، صيف عام 2008م. و”الزّول بحدّثو غرضو”، كما يقولُ أهلنا الأعراب. العجوز الطّليانيّة القصيرة، بيضاء الشّعر، رافقتنا إلى شابّة جميلة، جالسة على مقعد سيّارتها المرسيدس. علينا أنْ نفاوضَ الشابّة الجميلة. سألتني “هل تتحدّث الإنجليزيّة؟”، فقلتُ “لا”. ضجّتِ العجوز الطّليانيّة، هذا رجلٌ مستهتر. قبل مجيئنا إليك، كان يحادثني بالإنجليزيّة. أنتم غير جادّين، إطلاقاً. هدّأتِ الشّابةُ الجميلة من غضبها، ورجعتْ تسألني أيُّ لغةٍ تتحدّث؟ فقلتُ لها العربيّة، فقط. قالتْ “لا بأس… سأتحدّث معكم بالعربيّة”. العجوز اتّسعتْ عيناها، ودخلتْ في موجة غضبٍ جديدة “كيف لرجلٍ أسود أنْ يتحدّث العربيّة… ألم أقلْ لك إنّهم غير جادّين”.
استنكارُ ودهشة العجوز الطّليانيّة في محلّها. ثمّة صورةٌ نّمطيّة للعربيّ في العالم أجمع. وهو أمرٌ لا جدالَ حوله. الصّورة لا تتطابق مع الشخصين الأسوديْن اللذين يقفان أمامها. لم تكنِ العجوز لتبلغ ما بلغت من الاستنكار لو أنّنا حادثناها بأيّ من لغات أوروبا. فذلك طبيعيٌّ بحكم الاستعمار وبحكم الاستحمار، كما يقول د. علي شريعتي. لكنْ لا يمكن للأسود أنْ يتحدّث العربيّة. كنتُ أجادلُ صديقنا محمّد التجاني سليمان نوح، من الأشراف الفولانيين بمدينتيْ القضارف والشّوَاك، وهو رجلٌ لصيقُ الهوى بمقولات الاستعراب وضرورات العودة إلى اللغات الأمّ، أو على الأقلّ المطالبة بالمساواة اللغويّة بين السُّودانيين، وإعطاء الشّعوب “الأصيلة” حقوقها اللغوية، على غرار الحقوق الأخرى، سياسيّة، اقتصاديّة، الخ. كنتُ استعلمُ صديقنا محمّد التجاني: هل وقفَ شخصٌ ما، لنقلْ يعرب بن قحطان، مثلاً، على جزيرة سواكن، أو ساحل ميناء عيذاب، وكان يحملُ طستاً ممتلئاً لغةً عربيّة حتّى آخره، وكشحه على السُّودان، ليلاً، ثمَّ أفاق النّاس من نومهم، فصاروا يتحدّثون اللغة العربيّة؟ أمْ أنَّ اللغات تحيا، تتحرّك، تتطوّر، تسودُ، تتقهقر، تمرض تموت وتنقرض وفقاً لمنطق معقّد جدّاً، لا علاقة له بقسمة السّلطة والثروة، ولا علاقة له بلون البشرة؟ إذا كانتِ الإجابةُ على السّؤال الأوّل بـ”نعم”، فيجبُ علينا مقاضاة ذلك الأعرابي الذي كشحَ فينا طستاً من اللغة العربيّة، فأفقدنا لغاتنا، وأدخلنا في “حيص بيص”. ننبشُ قبرَه – بأمر النّيابة العامّة، أو المحكمة الجنائيّة – وننتقم منه. أمّا إذا كان الأمرُ ليس كذلك، فلا معنى للوقوف أمام السُنَنِ الكونيّة. فذلك يشكّلُ ضرباً من الغباء المطلق.
السيّد تيّة، تحدّث في منبر سونا الأسبوع الماضي. وضمن ما قاله، بمناسبة يوم اللغة الأم، هو مطالبته بإلغاء النجاح في اللغة العربيّة شرطاً للشهادة السُّودانيّة. وذلك لأنَّ الدّراسات أثبتتْ أنَّ 70% من السُّودانيين لغاتهم الأم ليستِ العربيّة. والسيّد تيّة – استناداً إلى ذلك – يطالب بتدريس المنهج باللغات “القوميّة”، أو اللغات “الأصليّة” للشّعوب “الأصيلة”. مشيراً إلى كلام وردَ في اتّفاق نيفاشا، وما إلى ذلك. فاللغة العربيّة “المفروضة” علينا الآن، هي لغة “سياسيّة”، لم يخترْها السُّودانيون.
حديث السيّد تيّة قديم، قدمَ “الشّعوب الأصيلة”. لكنَّ السيّد تيّة يعرف أنَّ السُّودان شهد حقبتين استعماريتين: الأتراك بقيادة إسماعيل باشا، والإنجليز بقيادة كتشنر. لم تترك أيٌّ من الحقبتين لغتها عندنا. فيما لم يجرِ استعمارُنا عربيّاً، قطُّ. إذن كيف صارتْ لغتنا هي العربيّة؟ مَنْ وضَع السّيف على رقاب ملوك سنّار، سلاطين دارفور وملوك تقلِي ليتركوا وثائقهم باللغة العربيّة ويجعلونها لغةً رسميّة لممالكهم؟ يعرف السيّد تيّة أنَّ شيئاً من ذلك لم يحدث. وإنّما سادتِ اللغة العربيّة بمنطق لا سياسي. بمنطق اللغات ومنطق المجتمع. دعْ عنك “الطّلس” الذي يروّج له أساتذة تيّة بعدم وجود قبائل عربيّة في السُّودان، فذلك ليس موضوعاً للنّقاش من أساسه.
ويجهلُ السيّد تيّة أنَّ اللغة العربيّة هي لغة اليومي والسياسي في جنوب السُّودان، الذي لم تدّعِ قبيلةٌ واحدة فيه أصولاً عربيّة. ولا يُدينُ نصف سكّانه بالإسلام. سيفسّر ذلك بهيمنة “الجلّابة” عليهم، طوال قرن، قبل انفصال الجنوب. وذلك أخذاً في الاعتبار أنَّ “الجلّابة” أنفسهم ليسوا عرباً. ما هو الغباء إذن؟
بالمنطق، سيكون شرط النّجاح في الشّهادة السُّودانيّة إتقانك للغتك الأم. الزّغاوي بزغاويته، النّوباوي بنوباويته، البجاوي ببجاويته، وهكذا. تترجم وزارة التّربية المنهج إلى اللغات “الأصيلة” كلّها، تدرِّب معلمين، تضع امتحاناتٍ بها، ينجح الطالب ويدخل الجامعة الفوراويّة، النوباويّة، الهدندوية، الحلفاويّة، الانقسناويّة، يتخرّج، فيكتب لنا أعمال البلاد بلغته، ويطبع الصحيفة ويؤسِّس التلفاز والراديو بلغته. ذاك هو الصّحيح.