النّظريّة التي يسوّقُ لها مثقّفو العاصمة، هي أنَّ المطبخَ السُّوداني كان فقيراً جدّاً، حتّى جاء اسماعيل باشا بجيشه، عام 1821م. بدأ يزدهر بعد ذلك. عن طريق المصريين، الأتراك، المغاربة والشّوام. إذْ لم تكنْ نساءُ السّودان يعرفنَ شيئاً عن الطّبائخ. والمقصود بها “كلُّ الخضروات التي تُوضع على الدّمعة”. ثمَّ جاء مع “الحلب” هؤلاء الكفتة، المحشي، القيمة، وهلمجرّا، كما يستخدمها الإمام الصّادق المهدي. وهو المهاد التأسيسي الذي أخرج العبارة السّودانية “أحمر منك.. أعرف منّك”. ولا يخفى على أحد مقدار الحمولة الانهزاميّة التي تنطوي عليها. مفسّروها والمسوّقون لها، يقولون إنّها تستبطنُ “معرفةً” – وليس علماً – بفنّ الحياة، وتدبيرها. ويفرّقون بين “العلم” و”المعرفة”. يذهبون إلى أنَّ أولئك – أهل الحُمْرة – يعرفون كيف يسكنون، كيف يزرعون، كيف يحصدون، كيف يدّخرون، كيف يتصرّفون إزاء “هجائم” الحياة، أو “هجايمْ الليل”، كما غنّتْ مغنّية وشاعرةُ الجعليين، في “عريس عواتي الخيل”، التي يردّدها عمر الحواري.
على أنَّ “الحمْرة” تلك، هي التي أباها المهديُّ، فيما بعد، حين سادتِ المهديّة، وأرستْ ثقافتها وأدبيّاتها. قبل أنْ تتراجع، عقب عودة الاستعمار وتسيُّد النّفسيّة المنهزمة لدى السّودانيين. وصارت مصرُ قِبلةً ومحجّاً. يقصدها المثقّفون والأفنديّة وحتّى العوام، ليعودوا مبهورين بكلّ شئ. حتّى أنَّ مثقّفاً مصريّاً يسخرُ بشدّة، وبطاقة الاستغراب كلّها، من وجود حزبٍ “ناصريّ” في السّودان، فيما “نحن نسينا عبد النّاصر نفسه”. لكنْ لا يجوز لأحدٍ أنْ يسخر، أو يستفسر عن ركائز “الحزب النّاصري الفكريّة، أو أطروحته السياسيّة، أو تنظيره حول العمليّة السياسيّة برمّتها”. وحين أرادتِ “الحُمرة” أنْ تهدي لنا جامعة، القاهرة فرع الخرطوم، أهدتنا كليّات نّظريّة، الحقوق والآداب – بعد تجريدها من اللغات – والتّجارة. لم يخطر على بالها احتياج السُّودان للصيدلة، الطّب، الهندسة، البيطرة، التّربية التي ستسدّ عجز مدرّسي الفيزياء، الكيمياء والرّياضيّات، لتسدَّ منافذ الحاجة إلى المدرّسين المصريين.
المعلوماتُ تقولُ إنَّ “الحُمرة” استغفلتِ “السُّمرة” – وليس السَّواد، كما يحبُّ المخرج العالمي سيف الدّين حسن – في مفاوضات واتّفاقية قيام السّدّ العالي. وحين أصبح واقعاً ضربتْ بعرض الحائط إرجاع نتوء وادي حلفا إلى السّيادة السُّودانيّة، وجعلتْ من خطّ 22 عرض، الحدّ الرّسمي، مقسّماً جبل الصّحابة بيننا. وكان يجبُ إرجاعُ قرىً مهمّة عند الحلفاويين، ومهمّة في تأريخ السّودان عموماً، هي دبيرة، سرّة، أشكيتْ، وفَرَسْ، والأخيرة عاصمة مملكة نوباتيا المسيحيّة، ومصدر جداريات العهد المسيحي في الطّابق الأوّل بمتحف السُّودان القومي، بعد تدمير كاتدرائيّتها، ليقوم السّدّ العالي.
الحماقةُ الإنقاذيّة، محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، في أديس أبابا عام 1995م، جعلتِ الحُمرة تستولى على مثلث حلايب. وُزّع إيداعٌ مصريّ من قبل الاتّحاد الأفريقي على الدّول الأعضاء، يتضمّنُ خريطة لمصر تشتملُ على المثلّث. قامتْ قيامتُنا. وزعقنا لأنَّ ذلك تجاوزٌ كبير. لنْ يحدثَ جديد، فالحُمرة تعرفُ كيف “تستهبل” الهُبلَ المغفّلين، أصلاً. تضربنا 3/ صفر، كما فعل الأهلي بالمريخ المسكين، وتسخر. لا يكادُ يخلو مرجعٌ أكاديمي مصريّ واحد، لأساطين الأكاديميا عندهم من ذكر “السُّودان المصري”. حتّى حين يجري تعريف سلطنات مثل سلطنة سنّار أو دارفور، فهي “سلطنات نشأتْ في السُّودان المصريّ في الفترة من 1504 – 1821م”. بمعنى آخر ليس ثمّة بلد اسمه السُّودان في العقليّة المصرية. لذلك، ليس هناك ما يمنع أنْ تقوم المخابرات المصريّة بطباعة العملة السُّودانية وتهريبها إلى السُّودان، والقيام بشراء الماشية الحيّة واللحوم، الجلود، المحاصيل، الآثار، الذّهب، وكلَّ شئ. تصدّرُ مصر السمسم، الصّمغ العربي، المانجو، وتتفنّن في تصدير اللحوم. فالجنينة خفيرها نائمٌ ويشخر ملء حلقومه.
لا أرى سبباً يمنعُ إيقاف الصّادرات إلى مصر، في هذا الوقت، على الأقلّ. ولا أرى سبباً يمنعُ اللهجة الحاسمة في التعامل مع مصر في كلّ الملفات. بل لا أرى سبباً يمنع من عدم التعامل معها. لكنْ النّفسية المنهزمة، تنسبُ إلى الحُمرة حتّى “صينيّة غدائنا”. كأنَّ المطبخ الدّارفوري الآهل، المتفنّن جرى ويجري فى بلدٍ آخر، أو في “بلدٍ إفريقي” مجاورٍ لنا. ثمّة استعداد نفسي للهزيمة أمام “الحُمرة”. فليس أمامنا إلّا أنْ “ننجلخ”، ليُسمَع صوتُنا.