عبد الحفيظ مريود يكتب.. عويلُ الثكالى
ما الخطرُ في دخولِ جيش منّاوي إلى الخرطوم، واحتلاله لبعض الحديقة الدّوليّة، أو كلّها، قبلَ أنْ تترتّبُ مقرّاتٍ له، في إطار الترتيباتِ الأمنيّة والعسكريّة المُشكّلة لاتّفاق جوبا للسّلام؟ أيُّ مخطّطٍ يتوجّبُ التنبيه له، قبل وقوع الكارثة، التي ستكتملُ بقدوم بقيّة جيوش الحركات الموقّعة على سلام جوبا، لا سيّما بعد أنْ تنضمَّ إليها جيوش عبد الواحد نور، وعبد العزيز الحلو؟ أيُّ منامٍ ستقلقُ، أو منامُ مَنْ سيتقلقلُ، لمجرّد أنَّ جيوشاً من السّودانيين أتتْ إلى الخرطوم، في إطار الترتيبات الأمنيّة؟ وهل إذا بقيتْ تلك الجيوش، حيثُ هيَ، في جنوب كردفان والنّيل الأزرق ودارفور، ينتفي خطرُها وتصبح غير مهدّدة للأمن والاستقرار المدينيّ؟
لقد أعولَ د. زهير السّراج، متكئاً على تقرير أمميّ، يحذّرُ من دخول جيش منّاوي إلى الخرطوم. بالتّزامنِ مع عويلٍ آخر مقيتٍ، انخرط فيه محمّد جلال هاشم، قاطعاً بتشاديّة آل دقلو، الذين أصبحوا جزءاً من المشهد. في السّياق ذاته فعل د. حيدر إبراهيم علي، معيباً على القائدين منّاوي وجبريل إبراهيم إلمحاتٍ بدرتْ منهما، من الأوّل منهما تحديداً، بشأنِ المُصالحة الشّاملة، والتي هي – بالضرورة – تُدخِلُ الإسلاميين فيها، والتي ستساوِى بين “الجلاّد والضحيّة”، مُبدياً حرصاً، متكلّفاً، على ضحايا الحرب في دارفور، والإبادة الجماعية والتطهير العرقيّ. قبلَ أنْ يقطعَ بكوزنة د. جبريل إبراهيم، الذي ابتدر مجيئه إلى الخرطوم، “بزيارة منزل التُّرابي”، وهو عند حيدر إبراهيم دليلٌ دامغٌ على “كوزنة” جبريل وحركته.
ثمّة عويل، وانتحاب لا يظهرُ على السطح، وسط طغيان عويل النائحات الثكالى جهيرات الأصوات، واسعات الحلاقيم، يندبنَ عائلاً وكفيلاً يعشّى الضيف، يغيث الملهوف ويقنّع الكاشفات، هوى بليلٍ ليصبحنَ أرامل مُضطهدات.
يحتلُّ السّودان موقعاً لا بأس به وسط ترتيب الجيوش الأقوى عالميّاً وبالتّالي إقليميّاً. ثمّة سيرةٌ طويلة لتأريخ تطوُّر الجيش السّودانيّ، لكنَّ الفصل الأكبر في هذا التطوُّر، تقنيّاً وتسليحاً، حَدَثَ في عهد نّظام الإنقاذ. ذلك النّظام الباطش، الدّيكتاتور، الإسلامي الرّاديكالي. شاء من شاء، ورفض مَنْ رفضَ. تلك حقائقُ تأريخيّة لا ينكرُها إلّا مكابر. فمنظمومة الصّناعات الدّفاعيّة، التي جعلتِ الجيش السّوداني يمتلكُ ابتداءً من طلقة الكلاشنكوف، حتّى الطائرات المُقاتلة، ويصنّعها بكفاءة عالية، هي نتاجُ تفكير وسياسات الإنقاذ. نهضتْ دعواتٌ هنا وهناك لهيكلة القوات المسلّحة، بعضُها صادر عن قيادات فيها. وبعضها صادر – بسذاجة مُنقطعة النّظير – من أمثال د. حيدر إبراهيم علي، “المفكّر المرموق”، الذي يحبُّ أنْ يصنّف النّاس بزيارة منزل د. حسن التّرابي، بعدَ رحيله. كأنّما د. التُّرابي حكرٌ على الإسلاميين، مُتجرِّداً من صفاته الأخرى: الأكاديمي، السياسيّ، المفكّر الإسلامي، اللغوي، الرّقم الأصعب على طول السياسة السّودانيّة وعرضها.
الترتيباتُ الأمنيّة لاتّفاق جوبا، طرحتْ موضوع هيكلة الجيش بشدّة. وأنبتْ الاتّفاقية على أرقام وحقائق. سيجري إنفاذ بناء جيش سّوداني موحّد، تحت قيادةٍ عليا، لأنّه مصدرُ قوّة لهذه البلاد. وذاك أمرٌ يعرفه العسكريون الذين صاغوا الجانب الأمني والعسكري. بعد نجاح ثورة ديسمبر وسقوط الإنقاذ، لم تخضِ الحركاتُ المسلّحة معركةً واحدةً ضدّ الجيش. وبعد سلام جوبا، عرضتْ كثيراتٌ منها القتال إلى جانب الجيش في الفشقة. وذلك يعني أنَّ الأرضية الأساسيّة لبناء الجيش المرتجى متوفّرة. لكنَّ العويل يلعبُ على تناقضاتٍ ممجوجة، وهي أنَّ هناك تنسيقاً بين حميدتي والمجموعات المُوقّعة، وأنّ الجيش نفسه ليس بريئاً من القتل والإبادات التي حدثتْ في مناطق الحروبات كلّها، مما يجعلُه شريكاً مع “الجلّاد”، وبالتّالي ليس من الحكمة أنْ تنسّق الحركات المسلّحةُ معهما، الجيش والدّعم السّريع.
ذلك يعني استمرار التشرذُّم العسكري. وحين ينظرُ النّاظر إلى وضعية الدّعم السّريع الرّاهنة، ولا يجدُ معارك ومشاداتٍ بينه وبين الجيش، ويجد أنَّ الجيش هو من يقوم بتدريبه وتأهيله ووضع نظامه، ليصبح ذراعاً له، يمكنه أنْ يفهم مستقبل جيوش الحركات، فيما لو أقدمتْ جميعها على خُطّة بناء جيش سوداني موحّد، تحتَ إشراف القوّات المسلّحة، وصارتْ جميعها مؤتمرة بأوامر القائد الأعلى في تجربةٍ فريدة تجترحُ تعديلات تتناسبُ مع وضع السّودان، بدلاً من إرث الإنجليز.
ليكنْ جيش منّاوي مسلّحاً بأحدث الأسلحة، من معاركه في ليبيا، كما تفضّل عويل السرّاج الأممي. فلن يوجّهها للمحتفلين بعيد الحُبّ في شارع النّيل وشارع المطار. كما لنْ ينفّذ بها انقلاباً على الجيش. أو يستولى بها على القصر الجمهوري ومجلس الوزراء. الأوضاع والنّظر المستقبلي يجعل الإمكانات في البناء الإيجابي لكلّ تلك الجيوش أمراً يجبُ وضعه موضع التنفيذ. كما يجعل من المُصالحة الشّاملة صماماً لأمان السُّودان واستقراره السياسي. على الدّكاترة تجاوز عقليّات لجان المقاومة بأسرع وقتٍ ممكن.