عبد الحفيظ مريود يكتب.. استحباشٌ مرّةً أخرى
الأخبار تقولُ إنَّ السيّد الفريق أوّل عبد الفتّاح البرهان قد وضعَ شروطاً أربعةً للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع إثيوبيا. تمَّ إبلاغُ الوسيط الجنوب سودانيّ بها. الشروط ليستْ مهمّة، الآنَ، بقدر أهميّة وضعها، ابتداءً. ذلك أنَّ رئيس الوزراء الإثيوبي يعلمُ خطأ موقف بلاده من مسألة الحدود جملةً وتفصيلاً. ليس فقط المماطلات من لدن الإمبراطور، مروراً بتلوين المُماطلات أيّام منقستو، ولجنة د. منصور خالد، وزير الخارجيّة على أيّام حكومة الرئيس الأسبق جعفر نميري، وإنّما استمرار الحكومة الجديدة برئاسة ملس زيناوي، والتي أسهم السُّودان إسهاماً كبيراً في انتصارها على منقستو، وتنصيب زيناوي رئيساً للوزراء. فقد دأبتْ حكومة زيناوي على ابتكار الحجج، ومنها حجّة بالغة التهافُت والسخرية من السّودان، وهي تعذّر وجود خبراء إثيوبيين في ملف الحدود، ورفض الاستعانة بأي خبراء من أي جهة.
وهو بذلك، يمضي قُدُماً في تنفيذ الاستراتيجيّة الإثيوبيّة المعلنة، المستندة إلى أوهام قومية الأمهرا، والتي تعتقدُ أنَّ حدودها الطبيعيّة، شمال مدينة ود مدني، عاصمة الجزيرة. لكنّ التكتيكات الجديدة تقوم على عدم إعلان إثيوبيا حرباً على السّودان. والتراجع عن الاعتراف بسيادة السّودان على أرض الفشقة، وابتكار مصطلح “نزاع حدودي”، ثم التصدّي لانتشار الجيش السّوداني على الشّريط الحدودي عبر مقاتلي الأمهرا، وهي مليشيا عرقيّة، تبلغ في تعدادها الكلي أكثر من سبعين ألفاً، على أنْ يقدّم لها الجيش الفيدرالي ما يلزم لشنّ هجماتٍ وخوض معارك ضدّ الجيش السّوداني، والإعلان عن أنّها مليشيّات عرقيّة، وأحياناً عصاباتٍ مدفوع لها من قِبَلِ المزارعين الأمهرا، وبالتّالي لا سلطة أو نيّةً رسميّة لعداء السّودان، والترويج لمسألةِ الإخاء الأبدي والجيرة المستقرّة بين البلدين عبر الوسائط، القديمة والحديثة، على أنْ يتحدّث النّاطق الرّسمي للخارجيّة الإثيوبيّة، وسفيرها لدى الخرطوم باللسان الحقيقي.
يتطلّعُ رئيس الوزراء الإثيوبي، وكابينة القيادة التي يسيطرُ عليها الأمهرا، لإحداث تغيير على الأرض، بالقوّة الخشنة. قبل انْ يأتي آبي أحمد إلى العاصمة الخرطوم مشرعاً ابتسامةً تخلبُ ألباب النّاشطين والنّاشطات، ليتفاوض، أو يعلن نزول بلاده عند متطلّبات الصّداقة والإخوّة بين الشعبين الشّقيقين. ينظرُ القادة الإثيوبيون إلى الخلافات الدّاخليّة السّودانيّة كمحفّز لتنفيذ الاستراتيجيّة القديمة. لكنّ تماسُك لسان المدنيين والعسكريين إزاء الوضع على الحدود الشّرقيّة، أربك المشهد، إلّا من بعض مُراهقي السياسة، الذين بدأوا مُمارستها أثناء اعتصام القيادة، الذين يتصوّرون أنَّ العملية برُمّتها في شرق السّودان هي حربٌ بالوكالة، أو أنَّ البرهان يريد أنْ يستعيدَ بعض ما فقده وسط “الثوّار”، عقب فضّ الاعتصام.
المؤشّرات تقول إنَّ الموقف في مسألة الفشقة يجب أنْ يكون أولى دروس الوطنيّة وتوحيد الجبهة الدّاخليّة للسّودان. يتلاقى فيها ألوان الطّيف السّياسي على كلمةٍ سواء. هي عدم السّماح للخلافات السياسيّة، التقديرات بين الأحزاب والطوائف للتفريط في السيادة السّودانية على الأراضي جميعاً، على القرار، والانتباه إلى جميع المُخطّطات القريبة والبعيدة للانتقاص منها أو سلبها، تحت أي ذريعة كانت. فالفشقة ليست مُجرّد أرض عالية الخُصُوبة يسكنها الفلاّتة والهوسا وبعض المَساليت، ويرعى فيها البني عامر واللحويون، ولا تشكّل فرقاً لأنَّ الأرض الزّراعية عندنا “بالكوْم”. وإنّما هي أرض سودانيّة ليس ضروريّاً أنْ تكون لدينا خُطّة الآن للاستفادة منها، لأنّها ميراث الأجيال القادمة. ينطبق ذلك على مثلث حلايب، وعلى أيّ حجر أو جبل أو صحراء تخصّنا في الاتّجاهات جميعاً.