محمد فرح وهبي يكتب.. ظواهر مزعجة
ظواهر مزعجة مثل “عشة الجبل”، وغيرها كثير طبعاً، هي حالة انحطاط مؤقت، تشبث غبي ببنية الغباء “البشيرية”، للبقاء وتأكيد نفسها. العقلية التي تمجد البوليس كحالة للقهر والجياشي كأداة للقتل وتغني للقبيلة ببشاعة مضاعفة. إنها أمراض ما قبل الشهداء.
ما قبل “حرية سلام وعدالة”، هذا الشعار والذى وإن فهم حقاً هو في حقيقته تحريض عظيم لتحرير هؤلاء من عبودية طينهم المذلة وفقرهم المؤسف، فقر نفسي وعقلي وروحي قبل المادي.
معظم النشطاء الذين يتبنون حالة مثل “الجبل” كدلالة تأكيد على وجود مهمشين ومنسيين وأنها صوتهم، هم في حقيقتهم جزء من بنيتها البائسة، لأنه إن كانت ثمة وظيفة لهؤلاء فهي البناء. “حنبنيهو” ليس مجرد شعار مُتحدٍّ إنما هو طريق مضيء لبناء العالم، لبناء الإنسان.
بدل المبادرات الموسمية كل خريف وغيره، الأجدى أن نقف جميعًا في حواف هذا العالم المتهدم الممزق وفي قلبه، نشتعل وننور ونمحو الأمية نعمل الندوات ونعرف بالمدنية عبر سلوكنا ليس في الاشمئزاز من واقع سيئ إنما في تفهمه واحتضان ناسه والخروج بهم من نفق واقعهم المظلم. ليس بالعنف والتحريض وأنكم أقلية ومهمشون والجلابة أكلوا حقكم- كما يحدث من تحريض، إنما بالانغمار في قلب حيواتهم وضخ دماء حياة جديدة في قلبها إنعاشها بهواء صحي ومناقشة مشكلاتهم الحقيقية من بيئة مؤسفة لفقر وأسف وكل بياخة أطبقت عليهم.
أحياء جنوب الحزام مثلاً، تحتاج لوقفات ولأفواج من الحازمين الحادبين على بناء الإنسان ولصوت حق يعرضها كمشكلة حقيقية باعتبارها مؤبدة في الفقر والمسحوقية هكذا للأبد. كأنها محميات انسحاق بشر بلا أسئلة أو حق في العيش الكريم.. وغيرها كثير من حارات بلادي تقبع خارج تاريخ العالم وكل شيء، هي مأساة أكثر منها أحياء لحياة طبيعية لبشر طبيعيين. والأسباب معلومة.
فالمشكلة معقدة ومصنوعة في وجهٍ من وجوهها مثل كثير أزمات ومشاكل صنعت طيلة وقت سياساتنا الرسمية بالسودان.
لكن يوجد حل دائماً.. ليس في التماهي مع الضحايا والتعاطف معهم وتبني رؤاهم المغلوطة للعالم، باعتبار أنه موقف صحيح وانتماء وإنصاف، وهو عكس ذلك تماماً. هو موقف خيانة لهم وتأبيدهم في فقرهم وهامشيتهم بل وتشجيع مخل ومحزن عليها على حياة مغلوطة فجائعية..
هذا واقع يمكن إصلاحه.. بمواجهته وتفهمه وأنسنته وليس تبنيه كشعار سياسي والتعاطي مع ناسه باعتبارهم وقود نيران حرب مقدسة وتأبيدهم في سجن الجهل.
“الليل الليل يا سرور”..
“حي قيوم حي قيوم حي قيوم” وسقط مغشياً عليه.. كان في نشوة عظيمة وصوت المغني يغزو ليله الحالك ويُضيء.. كان رسالة ناصعة داخل أحاجيه كلها وقصصه وأوراده ” حي قيوم حي قيوم” عزيز كافي قوي لطيف عزيز كافي قوي لطيف عزييييييييز.. وسقط مغشياً عليه. أبصر في إغماءته العارضة عالماً، عانقه النبي الخضر بابتسامة عذبة، كان لكل شيء رائحة الضريح، البخور اليماني، والحبشي، وصوت بلال المؤذن يشق السماوات يصعد إلى الله.. “حي على الفلاح حي على الفلاح”، كان أخضر مثل ثوب أمي، وليناً مثل ضحكتها، كان عالماً غامراً بالحنان، جاءوه من كل صوب سلموا عليه وباركوا أيامه بينهم.. مرحب حبابك.. نورتنا يا حبيب، غشيتك السلامة ونشوة النشوة..
بينما يرن في دواخله صوت المغني “يا ليييل أبقالي شاهد، يا ليييل أبقالي شاهد”، انفجر ببكاء محرق، وجعير طفولي، يشهق بسرعة كأنما يخرج روحه، كان قلبه كله يخرج أمامه ويرى بنفسه تدفق الدم والعروق النافرة، والنبض القوي، ويواصل نشيجه الحار، بينما يتصاعد صوت المغني “يا لييييل أبقالي شاهد على نار حبي وجنوني”..
يبكي فقط، لا شيء يُحرر أرواحنا مثل البكاء، هو نهرنا الداخلي الذي نغسل فيه أوجاعنا، ونتخفف بماء دموعه من درن طيننا الثقيل.. يتصاعد اللحن، وجوقة أنبياء مباركة تحفه وأولياء والذين يحبهم الله. كلهم حفوه بحنو بينما هو يواصل بكاءه كان العالم حاراً حارقاً قاسياً يا حبيبي، وكنت وحيداً.
لا أحد يسمع نداء قلبي ولا يفهمني أحد. لقد غرقت بكلياتي في نهر غربتي وغرابتي، ولطالما تعذبت، كانت الحياة اختباراً صادماً لي، كلفتني ما لا أطيق.. وينفجر بكاؤه بصخب، تتصاعد أنفاسه، يسيل من أنفه مخاط أخضر برائحة طيبة، تستحيل أدمعه لبلور شفاف يُضيء، بينما يبدأ النشيج في انخفاض تدريجي، كان أحدهم يُمسد براحة يده وبحنو بالغ على صدره، ويبصره هو من وراء دموعه كنهر من ضباب.. كانت ابتسامته أعذب ابتسامة في العالم، أسنانه مشعة بنور كثيف وقسماته وضيئة بشكل لا يوصف..
وصوت المغني كان كأنه يُصلي يتناهى إلى مسامعه خفيضاً بوقار عجيب، يغمره من كل أطرافه، وينتزعه من الموت، من رقدة العدم، ويقذف به في رحاب الحياة الواسعة. يدفعه لأعلى، كثيراً، كثيراً، بينما يتصاعد تنزلق من جنباته أبخرة كثيفة، روائح قديمة لمساجد ومغارات وبحار ونساء طيبات.
“يا ليييييل أبقالي شاهد.. يا ليل أبقالي شاهد”.