كلما أذهب لإدارة امتحانات السودان لأي أمر من الأمور، يبهرني التنظيم الدقيق وتعجبني الترتيبات الجادة، وأٌدهش وأقف مشدوهاً أمام التعامل التربوي النفسي الذي يبرزونه مع الطلاب والطالبات وأسرهم وأولياء أمورهم، وهو ما لمسته في زيارتي الأخيره من الأستاذ القامة البارع الخبير التربوي والحاذق لكل شؤون الامتحانات صاحب التجارب الثرة المعلومة، المعلم القدير محمود سر الختم محمد الحوري مدير إدارة امتحانات السودان، فدوماً أجده أمام العديد من المشكلات التي يقوم بمعالجتها بأسلوب تربوي ونفسي رصين يساهم في امتصاص جوانب التوتر لدى البعض ممن يريد أن تكتمل إجراءاتهم بأي شكل كان دون مراعاة لطبيعة النظام المتبع في كيفية إجراء هذه المطلوبات.
ذهبتُ هذه المرة لأمر جلل ومصيبة كبرى وفادحة عظمى وخطأ شنيع في نظري، وقع فيه مدير مدرسة خاصة بمدينة الكاملين، فقد رفع اسم ابن شقيقي خالد أحمد إبراهيم الترابي باسم (خال) بحذف الدال، ولم نعِ هذا الأمر أو نعرفه إلا بعد أن أردنا التقديم له لدخول كلية الطب إذ أحرز نسبة ٩٣٪، لنتفاجأ بأن اسمه (خال) وليس (خالد)، فطاشت سهامي حينها وقد أظلمت الدنيا في وجهي لم ترتاح نفسي إلا بعد أن قمنا بإجراء المعالجات والتعديلات لهذا الأمر، وهنا لا بد لي إن أثمن عالياً وأمتدح الدور الكبير الذي قام به تجاهي وتهدئة ثورتي الإخوة في إدارة الامتحانات بقيادة الأخ الحوري، وقد علمت بأن نفس هذا المدير، قد أخطأ أيضاً في أسماء خمسة طلاب وطالبات أخر جميعهم قد أحرزوا نسباً عالية إحداهن قد نالت نسبة ٩٦٪، وقد اتصلت بمدير المدرسة هذا ولكن لم تعجبني ردوده ولم تقنعني مبرراته.
نحن نعلم تمام العلم أن المدارس الخاصة حريصة كل الحرص على سلامة جميع إجراءات الطلاب والطالبات وتتشدد في ذلك بدءاً من التسجيل في المدرسة ومتابعة لصيقة ومستمرة لأدائه ومستواه الأكاديمي، لأنها تخشى على سمعتها، فهي في سوق عمل تتنافس فيه مع أخريات وأقل تدنٍّ في ذلك يفقدها بوصلة الاتجاه السليم مما يجعل الأسر وأولياء الأمور ينفرون منها بسبب جوانب الإهمال هذه، وينبغي أن يكون الحرص على أتمه مع الطلاب والطالبات المبرزين والمميزين والمتفوقين وأن تتم جوانب متابعتهم بدقة متناهية لأنهم يجلبون السمعة للمدرسة ويكسبونها أراضي جديدة، فكيف بكم أن يصل الإهمال وعدم اللا مبالاة مع هؤلاء النابغين إلى هذا المستوى حتى في كتابة أول اسم لهم؟ وماذا نسمي ذلك؟ مع إيماننا الكامل بأن الخطأ وارد عند بني البشر (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء).
تناقشت مع الأستاذ الحوري حول هذه النقطة بالذات بكثافة وغيرها من اهتمامهم بقضايا الامتحانات الأخرى، وأعلم وأتيقن من دقة عملهم في الامتحانات وثقتي فيهم وبهم لا تحدها حدود، فذكر لي الحوري أن هذه من المصاعب الجمة التي تواجههم بصورة سنوية ومن المشكلات التي تؤرق مضجعهم على الدوام، على الرغم من توجيهاتهم المتشددة كل عام لإدارات المدارس بضرورة مراجعة سجلات أورنيك (ش ث)، وأنهم قد عقدوا دورات تدريبية لهم ليعرفوا كيفية طباعة الأسماء على جهاز الكمبيوتر وحفظها في فلاش وتوريدها لهم، وقد طلبوا منهم مراراً وتكراراً عمل (print out) لهذه الأسماء وأن ينادى كل طالب على حدة لمراجعة بياناته من نسخة الفلاش قبل حفظها فيه الحفظ النهائي بعد التأكد منها ورفعها لهم بعد ذلك في إدارة الامتحانات لاستخراج أرقام الجلوس والشهادات الثانوية التي أضحت مرتبطة بالسجل المدني وأنهم يرجعون إليه في ذلك حتى صور الطلاب والطالبات يأخذونها من السجل المدني، فيجب أن تكون بيانات الطلاب والطالبات صحيحة وفق الرقم الوطني الذي يكون صحيحاً أيضاً خصوصاً اسم الوالدة لأن بعض الأسماء قد تتشابه حتى الاسم الخامس، وأنهم يلجأون كثيراً في حالة تطابق الأسماء إلى استدعاء الطالب أو الطالبة للتأكد من اسمه من خلال خط يده وكتابته، وهذا لعمري عمل راقٍ جداً.
أعود من جديد لأعدد علاقاتي بإدارة الامتحانات، وأظهر ذكرياتي معها، فقد أشرعت سنان قلمي مدافعاً عنهم ومنافحاً عن جهودهم وتنظيمهم وترتيبهم وإجراءاتهم العادلة مع كل طالب وطالبة، وجعلته خنجراً مسموماً وسيفاً مسلولاً لكل من تسول له نفسه النيل من هؤلاء القادة العظام والعمالقة الكرام وكل من تطاول على الشهادة الثانوية التي اكتسبت سمعة عالمية لما لها من بذل الجهد وعظيم الأثر الذي تقود إدارة الامتحانات جهد المعلمين والمعلمات، فكنت بالمرصاد لكل الذين أرادوا ظلم هؤلاء بقصدٍ أو بدون قصد، وسجلي معهم في ذلك حافل وكثير وموجود.
إن عمل إدارة امتحانات السودان غير مرتبط بتغيير الأنظمة والحكومات، وظلت عليه في مختلف حقب وفترات الحكم في البلاد، في العهود الديمقراطية والثورات الشعبية والانقلابات العسكرية، لأنه عمل مهني بحت لا علاقة له بالجوانب والقضايا السياسية، رغم أن عناصر النظام البائد حاولوا السيطرة عليها كشأن نواياهم وترتيباتهم وخطواتهم في السيطرة على جميع مرافق الدولة بما عرف بالتمكين الذي تجري تبعات تفكيكه هذه الأيام، ورغم هذه المحاولات منهم فقد اصطدموا بالإجراءات الدقيقة الموجودة في أداء امتحانات السودان إلا من بعض الهنات التي قاموا بها ولا داعي لذكرها، وتعلمون أن أعمال كنترول الشهادة الثانوية في العام الماضي قد جرت وسط اعتصام القيادة، حيث فورة الشباب وهيجان ثورتهم، ورغم ذلك سارت الترتيبات اللازمة الخاصة بذلك لأن عمل امتحانات السودان في قمة الدقة (ما تخُرّش المية من تحتها) كما يقول الإخوة المصريون.
والآن في عهد الثورة الفتية تتواصل أعمال امتحانات الشهادة الثانوية بصورة طبيعية وبنفس نظامها المعهود في جميع مراحلها بدءاً من تسجيل الراغبين في الجلوس لأداء الامتحان عبر أونيك (ش ث)، واستخراج أرقام الجلوس وطباعة الامتحانات وعقدها وبدء أعمال الكنترول بتجهيز أوراق الإجابات للتصحيح، والقيام بعملية التصحيح، ثم إعادتها من جديد لمواصلة عمل الكنترول في المراجعات النهائية قبل رصد الدرجات واستخراج النتيجة، وكل هذه الإجراءات الممرحلة قد أقيمت هذا العام وسط صعوبات كبيرة معلومة للجميع بسبب تأجيلاتها لمخاوف جائحة كورونا، ولولا إخلاص المعلمين والمعلمات وخبراتهم وأمانتهم وتكاتفهم لما خرجت إلى بر الأمان، وهو أمر معهود فيهم يجعلنا نتفاءل بأن تكون إجراءات هذا العام كما أُريد لها وفيما يرغبه الجميع.
ختاماً أقول، إن المساس بالشهادة الثانوية محرم تماماً، فهي ذات قدسية خاصة، وسرية تامة وترتيبات دقيقة يقوم بها العاملون في إدارة الامتحانات كل حسب التكليف المنوط به بدءاً من المديرين والموظفين والعاملين، وعهدنا بهم جميعاً أنهم أهل أخلاق فاضلة وصبر وجلد وتحمل المسؤولية وأصحاب وطنية صادقة وحقة وإخلاص فريد يعملون بمنتهى التفاهم والدقة والتنظيم والترتيب يحدوهم في ذلك إعطاء كل ذي حق حقه دون منٍّ ولا أذى، فلهم منا جزيل الشكر والتقدير والعرفان النبيل ونبعث لهم بالتحايا العطرة والدعوات الصادقات لهم بالتوفيق والإعانة، وأن يتقبل الله منهم هذا العمل الكبير ويسدد رميهم ويعظم أجرهم ويدخره لهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وعمل جليل، لأن أموال الدنيا وحوافزها لن تكافئ مجهودهم.