عبد الحفيظ مريود يكتب.. بلغ السّيلُ الزُّبَى
التظاهراتُ والنَّهبُ والحرق في مدنٍ شتّى في السّودان. الفاشر، نيالا، الجنينة، الضعين، الفولة، الرّهد، الأبيِّض، بورتسودان، كسلا والقضارف. ذاتُ الهامش الذي كان يعوّل عليه أهلُ الحكم اليوم، حينما كانوا هامشاً. هل دارتِ الدائرةُ عليهم؟ هل يتحتَّم أنْ يتجرّعوا ذات الكأس المُرّة التي سقوها للآخرين؟ في الفوضى العارمة هذه.. التي لا يعرفُ فيها أحدٌ مَن هو الهامش والمركز، التي تتبدّلُ فيها المواقع بين عشيّةٍ وضحاها. يبدو أنَّ كلُّ شي ككلّ شئ.
الذي يسوق النّاس إلى الأعمال المذمومة في المدن المشتعلة اليوم، ليس هو الدّولة العميقة. ليس المؤتمر الوطنيّ والإسلاميون. وليستْ مخابراتُ أيّة دولة جارةٍ أو بعيدة. قال أبوذر الغفاري “عجبتُ لمن لا يملكُ قوتَ يومه في بيته، كيف لا يخرج على النّاس شاهراً سيفه”. الذي يسوقهم إلى خارج البيوت شاهرين جشعهم وغضبهم هو ما تعجّب له أبوذر الغفاري. فالنّاظر العارف الواعي، يعلمُ أنَّ الرّوح بلغتِ الحلقومَ وظنَّ النّاس أنّهم أُحيطَ بهم. في الوقتِ الذي تحوّل فيه دعاةُ العدالة إلى جلّادين. لا يعرفون كيف يُمكنُ أنْ يوقفوا الطّوفان الجارف الذي يحاول أنْ يقتلع البسطاء. انخرطتِ النّخب في المحاججات والمُلاسنات والشوفينيّة، سواء بغرض المُحاصصة أو الهيمنة. وليس يعنيها “الذي قد ضاع من عمر الشعب هباءً”، كما غنّى مصطفى سيد أحمد، بتصرُّف، قصيدة شمّو.
لم يكنْ يخطر على بال الحكّام الأوائل “الإنقاذيين” أنَّ الشارع يمكنُ أنْ يسقطهم. وقد كانوا صادقين، فقد ساعد الشّارع في الفعل، أو وفّر غطاءً ظريفاً للمحدقين بهم. بعد كلّ “لحسات كوع” للدكتور نافع علي نافع. وقد بدا – للوهلة الأولى – أنَّ حكّام اليوم أيضاً لا يعرفون أنّ الشّارعَ قد يكونُ عاملاً مساعداً في إسقاطهم. أو قد لا يسقطهم أصلاً. وذلك نوعٌ من انطماس البصيرة، على الأرجح.
لنْ يكونَ في مقدور الحياة أنْ تنتصر للحكّام الجُدد. لا سيّما وأنَّ الحكّام الجُدُد لم يطاوعوا سنَنها. يستعيرون ألبسةَ الأنبياء، المبشّرين، المصلحين، وهم في أجساد وقلوب الطغاة والفسَقَة. لنْ يكون ذلك متيَسّراً في ظلّ عالم فوضويّ لا يملكون مفاتيح إيقافه، لا على مستوى الدّولار مقابل العملة الوطنية، لا على مستوى الجشع وانفلات الأسعار، لا على مستوى الكرامة الإنسانيّة. فقد بدا كما لو أنَّ الحكومة الانتقالية منهمكة في أوديةٍ وأشغال غير تلك التي ينهمكُ فيها الشّارع. وهو أمرٌ خطر على المدى البعيد.
وليس من الحكمة التقليل من شأنِ الشّارع الذي تحرّك ووفّر غطاءً لخصوم الإنقاذ. فذاتُ السّلاح يمكنُ استخدامه، من آخرين أو من الشّارع نفسه لإسقاط هذه الحكومة. وفي الوقتِ ذاك، لن يكون في مقدورها أنْ تبرّر فيمَ كانتْ منشغلة عن الشّارع. إذْ لم يكنْ من أجندات الشّارع قط ما تنشغل به الحكومة، من مُحاصصات أو تطبيع أو انتقامٍ من النّظام السّابق.
هل من سبيلٍ لاحتواء الأزمات التي تُخرجُ النّاس في المدن العديدة في الأطراف وفي مدني حتّى، باعتبارها العاصمة الثانية؟ وزير المالية الجديد، يقول إنّه لن يغمض له جفنٌ قبل أنْ يعالج الأزمات. لا يعرفُ الشّارعُ عن د. جبريل إبراهيم الكثير. لكنَّ فرص صبرهم على وعوده ضئيلة جدّاً. ذلك أنَّ “الألمِي خَنَقَ القَنطورْ”، كما يقول البقّارة.