عبد الحفيظ مريود يكتب : وجبةٌ دسمةٌ
الطبخةُ السياسيّة تحاولُ أنْ تنضج، في الوقتِ الذي لا يريدُ أحدٌ من لجان المُقاومة وشباب الثّورة الذِّهاب إلى النّضج. والطبخةُ ليستْ سيئةً تماماً. والبقّارةُ يقولون إنَّ “الجيعان بياكُلْ رَقبة النّعام”. ذلك لأنَّ رقبة النّعام لا تسمنُ ولا تقيم الأوَدَ. لا يتكهّنُ أحدٌ بأنَّ الأوضاع تسيرُ إلى ما هو أحسن. على أيّ صعيدٍ من من الصُّعُد. بل تزدادُ سُوءاً بوتيرةٍ مُقلقةٍ. وهذا ليس بسببِ سُوء إدارة حكومة حمدوك للموارد، فقط. بل بسبب كلّ شئ تقريباً. والحالمون الذين كانوا يظنُّون بأنَّ سقوط حكومة الكيزان، القبض على رموزهم، تسمية الوزراء المدنيين، فصل الإسلاميين من المؤسّسات، القطع ناشفاً مع دول الخليج، مسح اسم السُّودان من قائمة الدُّول الرّاعية للإرهاب، زيارة مسؤولين أمريكيين وأوروبيين للسُّودان، والعكس، وغير ذلك سيحوّلُ السّودان إلى سويسرا، هم ذاتهم طويلو فترة المراهقة السياسيّة، والمبشّرون بدولة المُستقبل، بلا بذل أدنى جهدٍ في التفكير في المعطيات وإمعان النّظر في المعادلات السياسيّة في السّودان.
قال مستشار رئيس الوزراء الاقتصادي د. الحريكة، إنَّ ما أخذته لجنةُ إزالة التمكين لا يخلّصُ باخرة وقود واحدة راسية بميناء بورتسودان. ولم يألُ وجدي صالح ورفاقه جهداً في إقناع النّاس في المؤتمرات الصحفية لإزالة التمكين بأنَّ الدّولة العميقة قد تمَّ وأدُها للأبد. وأنَّ المال العام الذي نُهِبَ قد تمَّ استرداده، بما يجعل نصيب الفرد من الدّخل القوميّ يفوق نصيب الفرد في دولةٍ مثل الكويت. ببساطةٍ شديدةٍ، لم تعُدْ عبارة “ح نبنيهو” المأخوذة من قصيدة لمحجوب شريف، والتي أراد الشيوعيون أنْ يرفعوا بها مُستوى الحلم لدى الشَّعب السُّوداني، تعني أيّ شئ في ظلّ واقعٍ مُتهالكٍ.
حسناً…
شركات الجيش القابعة خارج ولاية المالية هي السّببُ في التدهور الذي نحنُ فيه. لكنّ المستشار الاقتصادي د. الحريكة يقول إنَّ الشركات الحكومية القابعة خارج ولاية المالية أكثر من شركات الجيش. وذلك يعني أنّنا – مدنيّاً – لا نزال في طور الشّرنقة. لا نحسنُ إدارة ما بأيدينا، لكنّنا “نكابسُ” لنأخذ ما في أيدي الجيش. والجيش يقول إنّه قال للحكومة المدنيّة “خذي.. هذه الشّركات”، غير أنّها لا تزال تسوِّف. ومقاومة الخرطوم شمال أو جنوب أو شرق، لستُ أدري، تمهلُ النائب العام وقتاً محدّداً لتقديم استقالته، وإلّا فسوف يرى والسّلام. الجنينة يسدُّ المعتصمون فيها منافذ الأكل والزّاد الذي تتغذّى عليه المدينة. القضارف ينهبُ أهاليها السُّوقَ أو بعضَه، وإلى الله المشتكى. وآبي أحمد، رئيس وزراء إثيوبيا الذي توسّط بين الحريّة والتغيير وحصدَ تصفيقاً حارّاً، يقصف جيشه الجيش السّوداني، ويشنُّ هجماتٍ داخل أراضينا ليأخذها عُنوةً، وبعضُ المُراهقين سياسيّاً يقولون: إنَّ البرهان يُحاول أنْ يُحسِّن صورته لدى شّباب الثورة. لأنّه مَضغوطٌ ويتهرّبُ من المُحاكمة التي ستشنقه في السُّوق العربي، أو الشّعبي، لا فرق.
الطّبخةُ السياسيّة تكادُ تستوِي. وينتهي هذا الفصل من مسرح العبث، الذي لنْ يتجرّأ خيال صمويل بيكيت، أو يوجين يونسكو على كتابته. يُلوِّح وزير التربية بالاستقالة فيما لو جمّد رئيس الوزراء منهج القرّاي ولا يستقيل. يهدّد حزبُ البعث بالانسحاب لو طبّعتِ الحكومة الانتقالية مع إسرائيل، والحكومة تتطبّع وهي تتلمّظ، ولا يغادر بعثيٌّ واحدٌ موقعه الحكومي. والبعث العربي الذي يقوم على دعوة الوحدة العربية، الأمّة الواحدة ذات الرّسالة الخالدة، يعجز أنْ يُحافظ على وحدته هو، فيتقسّم إلى ثلاثة أحزاب، ولا يشعر بالقلق، بل يستمرُّ مُبشِّراً بالوحدة العربية، ويُباصرُ تفسيراً طفولياً لموضوع التّطبيع.
الشّيوعي يلحُّ على تقديم المُتّهمين إلى لاهاي. يفلقنا بحقوق الإنسان. وفي مَحَافِل أخرى يتحدّثُ عن أنّ هذه جميعاً نتاجات للرأسمالية والفكر البرجوازي المُتعفِّن.. فمَن هو المُتعفِّن في مسرح العبث هذا؟. لكنَّ النّار هادئة خفيضةٌ الآن.. والطّبخة تكادُ تنضج، فاغسلوا أيديَكم جميعاً، وكُلوا بلا أسئلة… وإنَّ غداً لناظره قريب.