عبد الحفيظ مريود يكتب.. ردَّةُ العارفين
الخبران الكارثيّان الأسبوع الماضي هما خبرا الجعليين والشايقيّة على مستوى الإدارات الأهليّة. فقد جاء أنَّ نظارة الشّايقيّة تُطالب بالإفراج، أو محاكمة “أبناء الشمال” المقبوض عليهم من رموز النّظام السّابق. وجاء الثاني أنّ جمهرةً من رموز الإدارات الأهليّة بنهر النّيل، قابلتِ الفريق أوّل عبد الفتّاح البرهان، مُطالبةً بتغيير، إزاحة والي ولاية نهر النّيل د. آمنة الفكي، التي كانتْ قد واجهتْ مُشاغباتٍ في مدينة شندي، وهي تتأهّبُ لمُخاطبة جماهيريّة. فقام بعضُ أهالي نهر النّيل، مدينة شندي بتخريب المسرح المُهيّأ لمخاطبة السيدة الدّكتورة.
كنتُ قد كتبتُ في هذه الزّاوية بصحيفة “الرأي العام”، أعادها الله، مستقبحاً عودة نظارة الشّايقيّة. وظنّي المسنود بالملاحظات والواردات، أنَّ الشّايقيّة أصلُ المدينة في السّودان بالمعنى الحرفي للكلمة. ذلك أنَّ مسيرها، في أعقاب هزيمة اسماعيل باشا لها في كورتي، المعركة الفاصلة، مع جيشه، أتاحَ لها أنْ تتلقّف التمدّنَ والتحضُّر أبكرَ من غيرها من قبائل الشّمال. وقلتُ إنَّ قدرتها على تأسيس وجود محترم وقابلٍ للتأقلم والتأثير والتأثُّر في شتّى بقاع السّودان، جعلها صانعةً للمدينة، في شّرق السّودان، بورتسودان، كسلا وغيرهما. كردفان: أم روابة، الرّهد، الأبيّض، بارا، النّهود، بل وحتّى في جهات دار أم بادر تجدُ قرىً كاملة من الشّايقيّة. دارفور حدّث ولا حرج. تبعَ الشّايقيّة في هذه المدنيّة وصناعتها الجعليون. ولمّا كانتِ القبيلتان الأكثر حظّاً في التعليم، فإنَّ ذلك أتاح لهما فرصة السّيطرة على مفاصل رئيسية في صناعة السّودان الحالي.
في مقالة لي سابقة بصحيفة “الصّحافة”، على أيّام رئاسة الأستاذ عادل الباز لتحريرها، وإشراف الأستاذ عبد المنعم أبو إدريس، على ملفّها الثقافي، شرّحتُ “أيديولوجيا الجعليين”. تلك التي جعلت العاميّة السّودانيّة المعروفة في الوسط وكثير من بقاع السّودان صنيعة لهاتين القبيلتين الكبيرتين. ثمَّ يُدين غناء الوسط بشكلٍ أصيلٍ لود الفكي القادم من كبوشيّة.
استقباحي لعودة نظارة الشايقيّة كان استنكارياً للرّدّة والانقلاب على المدنيّة السّودانية. وهو ذات الأسى الذي اعتراني حين عادتْ لغة القبيلة تغلبُ على الجعليين الشّريك الأصيل في هذه الصّناعة المدنيّة. ثمّة روافع تأريخية وجغرافية طوّرتْ انخراط القبيلتين في التمدّن والانطلاق بعيداً عن قوانين القبيلة الضّيقة الموتورة. وهو شيٌ كانت قبائل الشمال النّوبيّة قد تخلّصتْ منه، قبل أنْ يضطرُّ الحلفاويون لإعادته إلى الحياة حين صيّرهم الرئيس الأسبقُ إبراهيم عبّود إلى بدو في البطانة، فرجعتْ عموديّة الحلفاويين في حلفا الجديدة في وسط لا يقيّم الفرد خارج إطار قبيلته. أذكتْ عوامل كثيرة العودة إلى القبيلة، في عهد الإنقاذ، مما أقلق الحريصين على النّسيج الاجتماعي السّوداني، والمدنيّة والتحضُّر في السّودان، الذي بدأه الأتراك في 1821م.
وإذا كانتْ عودة الجعليين والشّايقيّة للأُطر القبليّة ردّةً ونكوصاً عن المدنيّة التي تزَعّمتاها، فإنَّ الخبريْن المنشورين نهاية الأسبوع الماضي، المُشار إليهما في صدر هذه الكلمة، رّدَّةٌ عن الدّولة، رجوعٌ بالتأريخ إلى ما قبل التّركيّة. يمكنُ فهم بيان الكواهلة الدّاعي لإطلاق سّراح بروفيسور إبراهيم غندور وبعض أبناء القبيلة في سياقه المنطقي، باعتبار أنَّ المنطقة – النّيل الأبيض – لا تزال تمسكُ النّظم التّقليديّة بتلابيبها. مثل قدرة المثقّف على استيعاب أنَّ حركة منّاوي وعبد الواحد، في أوّل عمليّة عسكرية كبرى لها، دخول مطار الفاشر، قد قبلتْ أنْ تُطلِق سراح اللواء طيّار البُشرى حين ذهب إليها وفدٌ من قبيلته، المسيريّة. فالسّياق قَارٌّ في القبليّة والبناء التقليديّ. لكنْ يصعبُ فهم الرّدة التي يقومُ بها الجعليون والشّايقيّة في هذا الوقت. لأنَّ ذلك نذيرٌ خطير بأنَّ أكثر من مائة عامٍ ضاعتْ سُدىً.
لا يستقيم أنْ يقبع أيٌّ كان في السجون بلا محاكمات عادلة. حتّى ولو كان قد فعل ما فعل. لا يجبُ استثناء أحد. فالعدالة لا تتجزّأ. وإذا كانتِ الحكومة الانتقالية تضمرُ شيئاً غير العدالة – وهو واضحٌ لكلّ ذى عينين – فإنَّ حملَها على تحقيق العدالة يجب أنْ يسلك صراطاً مدنيّاً قويماً، لا أنْ تتنادى كلُّ قبيلة بمن ينتمي لها. ذاك مفجعٌ حدّ المرض.