عبد الحفيظ مريود يكتب.. عنصريّ ومغرور
الأستاذ موسى حامد صحفيّ نابهٌ ومثقّف ضليع. كان قدْ سأل سؤالاً نافقاً:- لماذا تنعتُ الكتابات عن تأريخ الانقلابات العسكريّة في السّودان، الانقلاب الذي يقوده ضابطٌ من غرب السٌّودان، وعددٌ لا بأسَ به من ذات الجهة، بالانقلاب “العنصريّ”، فيما يكون الانقلاب الذي يقوده ضابط من الشمال، ويغلب عددُ المنحدرين من ضبّاطه من الشّمال الجغرافيّ، انقلاباً ذا طبيعة أخرى؟ لماذا يلتصقُ وصفُ المرتزقة بحركة معيّنة؟ ويجري التعامل مع الجيش الذي قاده د. خليل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة، في عملية الذّراع الطّويلة، لغزو أمدرمان، على أنّهم ليسوا سودانيين؟ لماذا ظلَّ جهاز أمن الإنقاذ يلصق كلَّ عملٍ عنيفٍ، يستهدف المدنيين، وكلَّ جريمة شنيعة بأشخاص من غرب السّودان، وتحديداً دارفور؟ حتّى مواكب ثورة ديسمبر ومظاهراتها، حين كثُرَ القتل، قبض الجهاز على مجموعة من الطّلاب وزعم أنّهم خليّة تقتنصُ الثوّار والمتظاهرين، حتّى خرج الموكب الذي يندّد بالفَعلّة “يا عنصري ومغرور.. كلّ البلد دارفور”؟.
للدّقة والأمانة، فإنَّ سؤال الأستاذ موسى حامد هو السؤال الأوّل، المتعلّق بالانقلابات العسكرية. وكان قد طرحه على ضابط رفيعٍ متقاعد، كتب كتاباً عن الانقلابات العسكريّة في السّودان، بقية الأسئلة من خيالي المريض، وحسب.
حين انطلقتِ المشاكلُ الأخيرة في مدينة الجنينة، حاضرة ولاية غرب دارفور، مخلّفة أكثر من مائة قتيل، كان واحداً من تصريحات والي غرب دارفور، محمد عبد الله الدّومة، أنَّ الأحداث ضلعَ فيها أناسٌ يتحدّثون لهجةً غير سودانيّة. استوقفتني العبارة. كيف تميّز اللهجة السّودانية من غيرها، والسّودان عبارة عن لهجات أكثر من شعر الرأس؟ هل يعني أنَّ اللهجة التي تحدّثتْ بها القبائل العربيّة في الجنينة غير سودانيّة، أم التي تحدّثتْ بها القبائل غير العربية؟ وذلك لأنَّ القبائل العربيّة في دارفور تتحدّث أكثر من لهجة، ومثلها تفعلُ قبائلُ كردفان. فكيف تميّز لهجةً ببساطة، دون أنْ تستعين بخبراء؟ يمكنك أنْ تتوغّل في شعاب جبال النّوبة، ويصادفكَ راعٍ من المسيرية الزُّرق، أو الحوازمة يحدّثكَ بلهجة مختلفة عن لهجة أهالي أبو زبد، الفولة، الدّبيبات وغيرها من حواضر القبيلتين. فهل يعني ذلك أنّ الراعي ذاك لا ينتمي إلى أيّ من القبيلتين؟
يتمرحل الصّراعُ والوصمُ العنصريُّ في السّودان، داخل الإقليم الواحد، المنطقة الجغرافية الضّيقة، ناهيك عن الأقاليم والجهات الكبرى، في بلدٍ كالسُّودان، شاسع، ولا يعرف أهلُه بعضَهم، ثقافيّاً، اجتماعيّاً، عرقياً وغيره. فالصّراعُ الكبيرُ الذي حمل الخارجين في ديسمبر، على تسفيه حِيَلِ الإنقاذ بإثارة النّعرات العنصريّة، مخلّفاً شعار “كلّ البلد دارفور” يمكن قراءته بطريقةٍ مغايرة، كما لو أنَّ دارفور تلّخص كلّ عنصرية السّودان الكبير. ذلك أنّها منقسمةٌ في ذاتها انقساماتٍ عنصريّة حادّة، بين العرب وغير العرب، والعرب أنفسُهم مقسّمون، مثلما هم منقسمون غيرُ العرب. وجميعهم بالنّسبة لأهل كردفان مجرّد “غرّابة”، فيما ينظر أهل الوسط والشمال إلى الجميع (كردفان ودارفور) على أنّهم شيئ واحد. وهكذا، يصعبُ على الآخرين تمييز أهالي الشّرق، وتمييز أهالي النّيل الأزرق، مثلما لا يميّز قبائل النّيل الأبيض إلّا هم، والجزيرة تفعلُ مثل الآخرين.
في إطار الرّومانسية، أيضاً، كان الشّخصُ الوحيد القادرُ على صنع لحمة وطنية وصهر هذا الخليط المتنافر هو محمد أحمد المهديّ، لولا رحيلُه المبكّر. فقد كان الرّجل عارفاً بدقائق النّفس السّودانية مسدّداً في خطواته، ويملك القدرات المؤهّلة للقيام بالفعل الكبير المختلف. لكنْ يظلُّ توحيد السّودانيين طموحاً أخرقَ، يحاول الكثيرون تسلّق سوره العالي، وسرعان ما ينزلقون، إلى أنْ يقيّض الله له – السٌّودان – رجلاً من أهل الهمّة العالية والمعرفة الدّقيقة، مثل الإمام المهديّ، فيجعل الطّموح واقعاً.