حين سقطتِ الإنقاذ، خرج د. علي الحاج محمّد، الأمين العام للمؤتمر الشّعبي، في مؤتمرٍ صحفي شهير، مفادُ مقالته، يومئذٍ، أنّنا كنّا نحاول إسقاط “الطاغية” من الدّاخل. لا يخطرُ على بالي الآن، أنَّ أحداً احترم مقالة علي الحاج تلك، بل ظّنّي أنّ العاقلين أشفقوا على الرّجل. ماذا يريدُ شخصٌ مثل علي الحاج أنْ يقول في ذاك الوقت؟ فالجميعُ يعرفُ أنَّ الحكومة التي سقطتْ، أو – كما تحبُّ بعضُ الوكالات الدّقة – أطاحتْ بها قيادةُ الجيش، في أعقاب انتفاضةٍ شعبيّةٍ، كان لحزب علي الحاج أكثر من وزير، وسفير وخفير. بمعنى أنَّ الذي سقطَ ليس المؤتمر الوطني والبشير، فقط. وإنّما كلُّ الذين شاركوا، أو قلْ، ظلّوا مشاركين لحظة السّقوط، أو الإطاحة.
فيما بعد، تمَّ اعتقالُ علي الحاج وبعض قيادات الشّعبي، بعد معركة قرطبة، كما يسمّيها النّاشطون. بتّهمة تقويض النّظام الدّستوري، التي يتحاكم بموجبها جلُّ رموز نظام الإنقاذ. لا ينكرُ إلاّ مكابرٌ أنَّ ما جرى ويجري ذرٌّ للرّماد في العيون. مثل لجنة تفكيك نّظام الثلاثين من يونيو. باطلُها أكثرُ من حقّها. يمكنُ أنْ تندرج تحت مسائل الانتقام، التشفّي، لكنّها لا تتغيّا العدالة والحقّ. وتشيرُ كلُّ الدّلائل وفصول ومراحل التقاضي في التّهمة إلى أنَّ المعزى يقعُ وراء تحقيق العدالة تماماً. لأنّ تقويض النّظام الدّستوري تهمة يقبعُ تحتها أشخاصٌ في السّجن لم يكونوا ضمن قادة الانقلاب، بل لا تربطهم رابطة بالجيش، ولم يكونوا ضمن قادة الجبهة الإسلامية القوميّة، التي توَلّتْ كِبَرَ الانقلاب، بل كانوا خارج السّودان قبل الانقلاب وبعدَ نجاحه.
لكنّ المؤتمر الشّعبي ينشطُ هذه الأيّام، بل منذ بعض الوقت، في حملاتٍ كبيرة منظّمة، للإفراج عن قادته، أو محاكمتهم بعدالة. ليس في الأمر غرابة، بالطّبع. لكنَّ أنْ يعمدَ الشّعبي في خطابه إلى استدرار عطف الشّارع، أو جذب الثوّار، مستخدماً شعاراتٍ مثل “خيانة شعارات الثورة”، أو غيرها، فهو – بالتّمام – الإسفاف والسفالة في الخطاب السياسي. إذْ لم يكنِ الشّعبي جزءاً من الثورة، حتّى ولو خرج أمينُه العام في مؤتمر صحفي وقال إنّهم كانوا يقاومون الطّاغية من الدّاخل. فحين تمّتْ إزاحةُ الطّاغية، كان الشّعبي داخل الماخور، تماماً.
قالتِ النّكتة الفجّة إنَّ أعرابيّاً يصلِّح السّراير، كان مارّاً بزقاق مشهور بالدّعارة، على أيّام السُّودان بخيره، كما يقولُ ناس أم درمان. وهو في مروره، دلقتْ إحداهنّ سطلاً من الماء عليه، بغير قصد. اعتذرتْ، وكفّارةً لفعلتها أدخلته، وتبرّعتْ بالقيام بغسل ملابسه. أعطته بيجامةً كان يلبسها الشواذ جنسيّاً، المتواجدون للخدمة في بيت الدّعارة، ريثما تغسل ملابسه وتجَف. في الأثناء داهمتِ الشُّرطة البيت، وكان عليهم أنْ يأخذوه مثل أحد ممارسي الفعل الرّذيل. كان يحاول أنْ يقنع الفرد المصرُّ على اقتياده أنّه مجرّد “مصلّح سراير”، فأجابه الشرطيُّ “واللابسو دا أبرول؟”.
لو سلّمنا جدلاً أنّ الشّعبي دخل يصلحُ السّراير في آخر حكومة للإنقاذ، وكان “قصده شريفاً”، فالرّاجح أنّه لن يتمكّنَ من إقناع رجل الشُّرطة، ضمن فريق الكشَّة أنّه غير ما يظنّ. فتواجدُ الشّعبي في الدّار، ولبسه للبيجامة، في وضعٍ مختلِّ، ومخلٍّ، سيعرّضه للتجريم بلا أي ملاواة. إذا كان الشّعبي حكيماً، كفايةً، وهو أمرٌ مستبعدٌ جدّاً، لنظر إلى الواقائع هذه: “رفضَ الخروج من الحكومة، قبل مداهمة الطّارة. خرجَ شبابُه رغماً عنه، وهدّدهم بالفصل. أعلنَ أمينُه العام وبعض قياداته أنّهم لن يتخلّوا عن إخوانهم في اللحظات الحرجة. أنكروا أيّ صلةٍ للحزب بالشّهيد أحمد خير، الأستاذ بخشم القربة. وحين يمعنُ النّظر في هذه الوقائع سيستحي أنْ يُخاطب النّاس بـ”خيانة شّعارات الثورة”.
أعتقد أنّ على الشّعبي أنْ يوكل شخصاً باستلام ملابسه، حين تجفّ، وتوصيلها إلى المنزل، وتسليمها للأولاد، وأنْ يستعدّ للمحاكمة الظالمة، في ساحات القضاء، والمحاكمة الاجتماعية والسياسيّة، فقط، لأنّه لا يزال يرتدي تلك البيجامة.