وعبد الخالق محجوب يطلبُ أنْ يدخّنَ سيجارة. أثناء سير المحاكمة. والقاضى يسمحُ له أو يرفض، فالأمرُ سيّان. لكنّه – القاضى – لا يجدُ مفرّاً من أنْ يحكمَ عليه بالإعدام، شنقاً، لأنّه “ملَكىٌّ” وسط فوضى انقلابٍ عسكرىّ، يتنصّلُ منه كلُّ شخص. لم يجدْ انقلاباً عسكريّاً ما لقيَه انقلاب هاشم العطا من كتاباتٍ وتوثيق ونقاشات وتصحيحات وتعليقات. وذلك لأنّه ارتبط بالدماء التي سالتْ، ليأخذَ وضعَه، وبالدّماء التي سالتْ للتخلُّصِ من آثاره، وآثاره شملتْ قياداتٍ ورموزاً مهمّة. ذاتَ مرّة حاورتُ د. غازي صلاح الدّين في بيته ببحري، قريباً من النّيل، بعدَ تأسيس حزبه، منشقّاً عن المؤتمر الوطني. غازي قال عبارة تستوجبُ التوقف عندها والتعمّق فيها. “ماذا لو لم تجرِ انقطاعات حادّة في تأريخ تكوين السُّودان، كيف كان سيكون حالُه لو استمرّتْ سنّار ودارفور، أو استمرّتْ التركيّة، دون تدخّل المهدية، أو استمرّتِ المهديةُ دون تدخّل الإنجليز؟” . كان يتأمّلُ أنْ يجدَ ما يشفي الرّبكةَ العظمى، والتمنّع على الفهم، التعصّي على الدخول في حوارية مثمرة، للحالة السّودانية عموماً.
تأمّلي الخاص – وذلك منْ حقّي طبعاً، كمثقّف منشق – في عبارة د. غازي، ماذا لو لم يقدِمْ الرئيس جعفر نميري على تنفيذ الإعدام على، عبد الخالق محجوب، وقادة الحزب الشيوعي السوداني؟ ماذا لو لم يقدِمْ – أيضاً – على إعدام محمود محمّد طه؟ لو لمْ تُقدِم الإنقاذ على إعدام “شهداء رمضان” – تُعجبني العبارة – الذين هم خليط بعثيين وناصريين، أو بعثيين أقحاح؟ لو لم تقدِم المخابرات – دولية وإقليمية ووطنية – على تدبير اغتيال د. جون قرنق ود. خليل إبراهيم؟
السؤالُ عبثيٌ بلا جدال.
لأنّه لا يفضي إلى معرفة. سؤالٌ غير ابستيمي، كما يقول المثقّفون. لكنّه مشحون بالعاطفة المشبوبة والرّغبة في تغيير مسار التاريخ. ممتلئٌ بالحسرات والقلق على المستقبل. كان الأولى أنْ تنطلق الأسئلة فيما بعد مخلّفات التاريخ. بمعنى النهوض بالحاضر، الرّاهن، المتعلّق بالآن وهنا. ذلك أنّه حين تمعّنُ النّظر في إمكانيّة استمرار سنّار ودرافور كسلطتين تقاسمتا سودان ما قبل التّركية، ستستعيرُ عوامل نجاحٍ وتكاملٍ من خارج سياقاتهما التأريخيّة والجغرافية، وخاصّة تلك المرتبطة بأدوات النّظر والتّحليل الخاصّة بك، ذاتها. وسيكون مجرّد تمنيّاتٍ رومانسيّة أنْ تصيّرهما إلى تكاملٍ وانصهار سيفضي – بحسب مقتضى التمنّي والرومانسيّة – إلى دولةٍ أكمل وأقدرَ على تحقيق مواطنتك التي تتمنّاها في اللحظة والتوّ.
مثلما لو أنّك نظرتْ إلى ضرورة وجود عبد الخالق محجوب ورفاقه، محمود محمد طه، “شهداء رمضان” – ما أزال أضمرُ ابتسامةً للعبارة – جون قرنق وخليل إبراهيم وغيرهما، في سودان ما بعد ثورة ديسمبر. ستسرحُ في التمنّي أنَّ الوضع كان سيكون مختلفاً، فقط، لأنّك تُكنُّ تقديراً زائداً لأحدٍ من المذكورين أعلاه. في مخيّلتنا أنّ الإمام عبد الرّحمن والسيّد علي الميرغني كانا عظيميْن. مثل تقديرنا لإسماعيل الأزهري وبعض المتفرنجين من مجيدي التحدّث باللغة الإنجليزيّة، من أفندية ما بعد الاستقلال. فقط لأنّنا لم نكنْ جزءاً من ذلك الواقع، سمعنا بـ”سوبرمانية” كلّ الأبطال الوطنيين، وأضفنا إليهم من خيالنا.
يشبهُ الأمر حين تفارقك امرأةً تحبُّها. ستعملُ على تضخيم ميزاتها، لأنّها ليستْ هنا، والآن. ولو كُنتَ مُنصفاً، كفايةً، لأدركتَ أنّك إنّما تفعل كلَّ ذلك خشية من مُواجهة الفقد والواقع. التفكير الجرئ والتقدُّمي هو الذي يتسامى ويعالج قصور الواقع، لا أنْ يقفز مرتدّاً إلى الماضي، مضفياً عليه قدسيّة ومسحاتٍ رومانسيّة.
سيجارة عبد الخالق محجوب مُتّقدة. يمكنُ للمجذوب أنْ ينفضها “ليوقظها، فتكرَى.. كما يكرى من المِقَةِ السّقيمُ”. ويمكنُ لمحمود محمّد طه أنْ يصلّيَ صلاة لا تُشبه الصلوات المعروفة في ملكوتٍ يقفُ وراءه مأمومين كلٌّ من: جون قرنق، خليل إبراهيم، “شهداء رمضان” – هذه المرّة سأخفي ابتسامتي – أبو ذر الغفاري الشّاعر، العميري، وحتّى شهداء فضّ الاعتصام. لكنْ يظلُّ الواقع هو ما يحتاج اجتهاداً أكبر.