قبيلَ الانفصال، جُنّتِ القنواتُ العربيّة والأجنبيّة بمصير السّودان. هل ينفصلُ أمْ يبقى كما هو؟ ضمن ذلك ارتأتْ قناةُ الجزيرة القطريّة أنْ تعالج تفاصيل الأمر، من كلّ وجه، وللأمر وجوهٌ وألوانٌ، كما هو بيّن. كنتُ منتجاً لثلاثة أفلام عن “السّودان: جدلُ الهويّة والجغرافيا”. المعدُّ وكاتب السيناريو، الأردنيّ، من أصول فلسطينيّة، الأستاذ أحمد الشيخ. وهو خبيرٌ في الأخبار والوثائقيّات، جاء إلى الجزيرة من بي.بي.سي في لندن. أراد أحمد الشيخ أنْ يستمع إلى تأريخ السّودان وجدالاته. من علماء التأريخ والمشتغلين بسؤال الهوية. اقترح الأستاذ المسلّمي البشير الكبّاشي، مدير مكتب الجزيرة في السّودان، مجموعة أساتذة في التأريخ، نستمع إليهم في مكتب بروف حسن مكيّ، وكان – حينها – مديراً لجامعة أفريقيا العالميّة. القائمة كانت تحوي البروفات يوسف فضل حسن، عمر حاج الزّاكي. وكنتُ أضفتُ إليها – بعد موافقة المسلّمي – الأستاذ إبراهيم اسحق. تخلّف بروف يوسف فضل، ذاك النّهار، لكنّنا عقدنا جلسة أخرى بمنزله ببرّي بالخرطوم.
اقترحتُ ابراهيم اسحق، وهو الاسم قليل الصّلة بملف التأريخ، والهويّة السّودانية. فقد لمع اسمه في حقل الرّواية والقصّة القصيرة، والنّقد الأدبيّ. قليلون يمكنهم اعتباره صاحب نظرات في تأريخ السّودان. وكان هوسي الذي ملأني وحملني على اقتراحه اسماً، في جلسة مغلقة، مخصوصة الغرض، هو انشدادي إلى كتابه النّادر “هجرات الهلاليين من الجزيرة العربية إلى المغرب وبلاد السّودان”، وهو رسالته للماجستير، في الدّراسات الأفريقيّة والآسيوية، بجامعة الخرطوم، ثمانينات القرن العشرين. كان مشرفه على الرّسالة بروف يوسف فضل. الإشراقات العظيمة التي قدّمها إبراهيم في هجرات العرب، إلى السّودان من غرب أفريقيا نادرةٌ وأصيلة. فقد قدّم للدّراسات السّودانية حزمةً من المصادر المغربيّة – وهو عملٌ نادرٌ – في وقتٍ كانتْ توجّهات السّودان مشرقيةً، أو أوروبيّة، من النّاحية المصدريّة، فيما يتّصلُ بالتأريخ، وأصول القبائل والجماعات التي سكنت السّودان.
كان إبراهيم اسحق – في تلك الجلسة – كعادته – مؤدّباً حيياً. كأنْ لا علاقة له بالمباحث التي يتطرّق إليها الحديث. ينصتُ مثل تلميذٍ نجيب يستمعُ ، أولَّ مرّةٍ، إلى ما يُقَال. الشئ الذي جعلني طوال الجلسة مركّزاً معه. كنتُ أريدُ منه مشاركة صُلبةً، إذْ أنا – بالأساس – من دفعتُ به إلى هنا، لا سيّما، وقد عامله البروفات على أنّه أجنبيٌّ على المباحث. لم ينطق إلاّ مؤخّراً، باقتضاب، موضحاً نقطة أو نقطتين، على استحياء، دون أنْ يشير إلى ما يُفهم منه أنّه أنجز شيئاً عظيماً في هذا المجال.
قابلته – قبلها وبعدها – عشرات المرّات. كان هوهو. لا يعطيك انطباعاً بأنّه يعرف شيئاً بالأساس، في أيّ موضوع، دعكَ من أنْ يكون روائيّاً ناحتاً، ناقداً فذّاً، باحثاً مدقّقاً، مترجماً من الطّراز الأوّل. في وثائقيّ صنعناه عن الطّيب صالح “رجلٌ من كرمكول”، أفادَ د. عبد الله علي ابراهيم الفيلم، بجملة ذكيّة عن الطيّب صالح، حيث قال “إنّه رجلٌ بلا ادّعاءات”. كنتُ معجباً بجملة عبد الله علي ابراهيم. قلتُ إنّه فعلاً أوفى الرّجلَ حقَّه. يمكنُ للوصف أنْ ينطبق على، ابراهيم اسحق. فقد كان فعلاً رجلاً بلا ادّعاءات، عظيم الموهبة، حادّ الذّهن، لقّاطاً. يسمّي الأمين بدوي “كاكوم”، أمثال هؤلاء الرّجال النّادرين بـ”البعاعيتْ”. عنده أنّهم ليسوا بشراً، بأيّ حالٍ من الأحوال.
ذهبتُ في وثائقيّ آخر، إلى شمال الفاشر، دار قبيلة “الميما”. كانَ دافعي بالدّرجة الأولى الوقوف على العوالم الحقيقيّة للرّوائيّ العظيم، إبراهيم اسحق. طفتُ وسمعتُ النّاس في “ودعة”، “قُصّة جمّتْ”، “أرْقُدْ مَراريتْ”، “كَلميندو”، وغيرها. الرّجل – فعلاً – خرج من هناك. البساطة والطيبة والنّقاء القرويّ الأصيل.
ليس من السّهل الكتابة عن إبراهيم اسحق، الذي رحل عنّا أمس، له الرّحمة والغفران. لكنْ ليس من الأدب، في شئ، تجاهل الفقد الكبير والفراغ الذي سيخلّفه ابراهيم اسحق في سوح الأدب والثقافة والتاريخ واللغويات وغيرها في السودان.