أرجو مخلصاً أن يكف الكُتّاب عن ترديد جملة (السلام الناقص) الذي لا يضم الحلو وعبد الواحد، لأن مجرد الطواف حول تلك الجملة يؤكد أن الكاتب ينقصه التحري العميق حول طبيعة وتحالفات وتوجهات الأطراف المعنية بالسلام، إذ أن لكل فاعلية من تلك الأطراف حاضنة قبلية مخلتفة ومساندات إقليمية متقاطعة ودفع دولي تتباين مصالح دوله .
يُحمد لاتفاق جوبا أنه تم مع جبهة واسعة تضم حركات دارفور وهوامشها في كردفان والحركة الشعبية بقيادة عقار وبعض مكونات الشرق وهذا في حد ذاته اختراق كبير يجبرنا على تثمين قادته لأنه تجاوز (الحركة) إلى المنظومة ولخّص موضوعات السلام في عبارات قصيرة جمعت الغرب والنيل الأزرق والشرق وهذا ما لم يكن متاحاً فيما مضى .
كانت العقبة الأكبر أن قوى الكفاح المسلح نفسها ليس بمقدورها الاصطفاف خلف فكرة تظلها سياسياً وتوحدها مطلبياً، وتجعلها قادرة على الدفاع عن البرنامج الذي تبنته بتقديس الجبهة التي أصبحت موئلاً لأطرافها على اختلاف مواقع قواها الفكرية والقبلية والإقليمية .
هذا في تقديري تطور كبير يجب النظر إليه بعمق والدفع باتجاه إثرائه، وليس التهكم عليه كإطلاق (الجبهة الصورية) على الجبهة الثورية، التي أنجزت سلاماً تجاوز الثنائية إلى المجموع، وذلك ما يلزمنا بمضاعفة التحية كون أن هذا الاتفاق تخطى تقليدية السلام بين طرفين فقط وامتد من صحاري دارفور للنيل الأزرق، ولترسيم فكرتي بوضوح أشير إلى أن كل اتفاقيات السلام السابقة تمت حصرياً بين الحكومة وطرف واحد وأجبر هذا الطرف لاحقاً على التخلي عن الاتفاق بتلكؤ الحكومة في تنفيذ بنوده من جهةٍ، وضغوط نظرائه من الحركات الأخرى مثل اتفاق أبوجا وطرابلس وأديس مع حركات دارفور .
الجديد في هذا الاتفاق أن قوة الدعم السريع كانت محوراً لهذا الاتفاق ولم تكن فيما مضى إلا حارساً لاتفاقات الحكومة، وصدىً لاتفاقات لم تشارك في تفاصيلها على النحو الذي يرضيها ويجعلها في موقع الدفاع عن تلك الاتفاقات .
اتفاق جوبا أبرز حقائق حيوية جديدة، ضمنها أنّ حركات الكفاح المسلح توحّدت حول برنامج سياسي فتحوّلت من حركات الى كتلة، وإن الدعم السريع والجيش توافقا على الترتيبات الأمنية، وإن تلك الترتيبات كانت على مستوى طموحات الجبهة الثورية.
كلّ هذه المُعطيات الجديدة يجب أن تدفعنا لدعم هذه الخطوة الجبّارة، لأنّها جماع أفكار وتجارب امتدّت لسنواتٍ عديدةٍ، ولأنها تفتح طريقاً للاعتراف ببعضنا وتُجسِّر مسالك للمُستقبل.