كنت قد قلتُ في مقال سابق، إن تحقيق وبسط الأمن يتطلب بالضرورة تنفيذ اتفاقية جوبا للسلام نصاً وروحاً خاصة بند الترتيبات الأمنية وتكوين القوات المشتركة، وقلت إن نشر القوات المشتركة وحدها لا يكفي، إلا إذا صاحب ذلك إرادة سياسية للحكومة من جهة، وحركات الكفاح المسلح والقوى السياسية غير الموقعة على إعلان قوى الحرية والتغيير.
أعتقد إذا صدقت النوايا ووضع الجميع المصلحة العليا للسودان نصب أعينهم نستطيع أن نصل إلى توافق سياسي مشترك لحالة (التشاكس) والصراع والتباين ووضع حد لحالة السيولة الأمنية.
كما هو معلوم أن التوافق السياسي كما تدل على ذلك الموسوعات والمراجع السياسية، وكما اتفق العلماء هو تعاون كل القوى المتنافسة على تحديد الأهداف والإجراءات لا أن تقف قوى واحدة عن بعد وتختار وفق مصلحتها ومزاجها دون الآخرين من تتفق معه وترى فيه حليفاً هيناً ليناً يساعدها على إخفاء نواياها وتمرير ما تريد وتسويقه على أنه ما يحقق الصالح العام.
كما هو واضح الآن في كافة الترتيبات خاصة تعديلات القوانين وتغيير المناهج، وجد ذلك رفضاً واستنكاراً على نطاق واسع من المهتمين وقيادات القوى السياسية، وهذا يؤكد بجلاء عدم وجود الحد الأدنى من التوافق الضروري لتعديل وتمرير ما تصبو إليه الحكومة من تعديلات تراها ضرورية في الفترة الانتقالية.
والتعريف العلمي التوافق السياسي: (هو مجموعة من القواعد الراسخة نسبياً والمتفق عليها لحكم الدول والمنظمات، ويجب أن يعبر الدستور عن الجميع ويحمى مصالحهم ويساوي بينهم في الحقوق والواجبات، والدستور يجب أن يشعر كل مواطن أياً كان نوعه أو سنه أو دينه أو عرقه أو جهته أو طبقته وكأنه قد كتب خصيصاً له لرعايته وصيانة حقوقه).
وأعتقد أن التوافق السياسي يمكن أن يصل بالجميع إلى نموذج الدولة المدنية الحديثة ما بعد ثورة ديسمبر المجيدة مثلما الحال في تونس ومصر نموذجاً على اختلاف أوضاع الدولتين.
وفي هذا الجانب، لا بد من التوافق كآلية مرحلية مؤثرة ومهمة ومطلوبة من آليات الانتقال والتحول السياسي تمهد الطريق لاستكمال هياكل الفترة الانتقالية السيادية والتنفيذية والتشريعية والقضائية، وعدم استكمالها يجعل الحكومة معطوبة و(مكوعة) كالطائر الذي يطير بجناح واحد.
صحيح أن الفترة الانتقالية معقدة وتحاصرها الأزمات الأمنية والاقتصادية، ولم تلتزم الحاضنة السياسية بما ورد في الوثيقة الدستورية المفترى عليها، وكان يمكن تجاوز كل ذلك بأقل ضرر ممكن.
التوافق السياسي يمكن أن تسبقه تهيئة سياسية واجتماعية وثقافية تجعل فرص نجاحه ممكنة وعالية ولا يخلو التوافق السياسي من عملية محاربة الفساد وتحقيق العدالة والإصلاح الإداري وإجراء الانتخابات وهذا يتطلب قدراً كبيراً من الإجماع السياسي حولها والإجماع يتطلب بالضرورة قدراً من التقارب السياسي والفكري وهي واحدة من مسببات تعقيدات المشهد السياسي والأمني الحالي.
في تقديري وحتى نصل إلى مرحلة التوافق السياسي يجب أن يصحب ذلك تنازلات من كافة الأطراف المعنية بالحكم والحريصة على أمن واستقرار مستقبل السودان وهي التنازلات التي تتمثل في حدوث شراكة حقيقية مع كل القوى السياسية بما في ذلك الأحزاب والجماعات الإسلامية من غير المتهمين بالفساد أو كانوا سبباً مباشراً أو جزءاً من الصراعات التي راح ضحيتها الآلاف من المواطنين، كما يجب الاستفادة من الصادقين من أفراد النظام السابق خاصة المقتدرين اقتصادياً والذين يملكون حلول المشكل والأزمة الاقتصادية المستفحلة مع عدم استبعاد عدم عودتهم للسلطة حال إجراء أي انتخابات نزيهة بعد انقضاء الفترة الانتقالية، وهناك تجارب سياسية ناجحة في المنطقة توافق بين التيار الإسلامي وغيره من التيارات الأخرى القومية أو الليبرالية مثال تونس التي شهدت حالة من الانسجام رغم التباين في الرؤى والأفكار.
جنوح أحزاب بعينها لتحقيق أكبر قدر ممكن من التمكين والسيطرة على مفاصل الدولة التنفيذية والتركيز على المصلحة الحزبية الضيقة، وهنا يمكننا القول ليس بالضرورة أن يكون التوافق مبنياً على تقاسم السلطة وتوزيع المقاعد التنفيذية للأحزاب وحركات الكفاح المسلح وتقاسم الأدوار، يجب التركيز على التوافق على البرامج سواء كانت اقتصادية أو سياسية.
في خاتمة القول، إن التوافق السياسي الذي أعنيه ليس تقارباً بين الفاعلين في الساحة السياسية الآن وهذه تعتبر شراكة ضيقة التأثير وتوافق منقوص إن لم يشمل بالضرورة كل القوى السياسية الموالية أو المعارضة.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل