النذير إبراهيم العاقب يكتب: “بني شنقول”.. الكنز المسلوب (1)
لعل كل الأجيال التي درست المرحلة الابتدائية منذ مطلع ستينيات القرن الماضي وحتى 1994م، مازالوا يذكرون الجملة الراسخة التي تقول (يستخرج الذهب في السودان من إقليم بني شنقول)، كأول درس في مادة التاريخ بالصف الرابع الابتدائي، هذا الإقليم السوداني الصميم، والذي يعتبر أغنى إقليم في العالم يُشكِّل كنزاً زاخراً بكل أنواع المعادن الثمينة، فضلاً عن احتوائه على أخصب الأراضي الزراعية، ورغم سودانية بني شنقول ورسوخ هذه الحقيقة الدامغة، إلا أن قضية الإقليم المسلوب من قبل الجارة أثيوبيا ظلت عالقة أمام أعين كل الحكومات السودانية السابقة والحالية، ولم تعرها أدنى اهتمام، ولا حتى سؤال عن الشعوب التي تقطنه وما هي قضيتها، ومعلوم أن كل شعوب بني شنقول الأصلية سودانية تتبع لمملكة الفونج، والتي حكمت السودان منذ العام 1504م ولمدة ثلاثمائة وسبعة عشر عاماً حتى سقوطها عام ١٨٢١م على يد محمد علي باشا.
والكل يعلم أن الأسباب الرئيسة التي دفعت محمد علي باشا لدخول السودان تتمثل في الحصول على الذهب والرجال من إقليم بني شنقول، بيد أن الحيرة ما زالت تغمر سكان ذاك الإقليم جراء صمت كل الأنظمة السودانية التي أعقبت نظام حكم ثورة مايو، وتعاميها عن قضية هذه المنطقة العريقة والغنية بالذهب والفسفور والنحاس واليورانيوم والبترول والفحم الحجري، وكل ما يدور بخاطرك من معادن نفيسة بباطن الأرض، وعدم اهتمامها بما يدور داخل الإقليم من سلب كامل له من قبل الحكومة الأثيوبية، وضمها لأقاليم أثيوبيا الخمسة، وتسميته باسم (إقليم بني شنقول قمز)، رغم عدم وجود وثيقة رسمية مكتوبة أو اتفاق معلوم مع أي جهة كانت يقضي بتبعية بني شنقول لدولة إثيوبيا والتي لا تربطها بالإقليم أي صلة دم ولا لغة ولا دين ولا ثقافة ولا حتى لا بيئة.
ولعل مأساة بني شنقول بدأت منذ عهد المهدية، حيث ذهب الخليفة عبد الله التعايشي، عبد إلى حاكم الإقليم وقتها الملك عبد الرحمن خوجلي تور القوري، يطلب منه دفع الجبر، الأمر الذي رفضه تور القوري، وطلب من التعايشي الاتفاق صيغة ثنائية لإدارة الدولة السودانية، إلا أنه رفض ذلك المقترح، وقام بإرسال اثنين من استخباراته ليختبر قوة تور القوري العسكرية على الأرض، وعند وصولهما لقباء عاصمة بني شنقول وقتها، اعتقلهما تور القوري لمدة أسبوع ومن ثم أفرج عن أحدهما ليُبلغ التعايشي بوصيته، وتقول بالحرف (لدي جيش ولديك جيش، وليس أمامك إلا أن نتقابل في الميدان)، حينها كان الكل يعلم قوة رجال بني شنقول حتى الجيش البريطاني كان يتحاشى قوتهم وبسالتهم في القتال وعدم الاحتكاك بهم لصرامتهم التكتيكية في الميدان، هنا وعندما شعر التعايشي بخطورة الأمر وعدم قدرته على المواجهة التقى ملك الحبشة وقتها الملك منليك، واتفق معه أن يكون إقليم بني شنقول تحت إدارته دون تدوين وثيقة أو صيغة قانونية تقضي بذلك، الأمر الذي تحاشاه منليك نسبة لوضعية إقليم بني شنقول حينها من ضمن المحميات التي لديها بند قانوني في الأمم المتحدة تحت المادة (50)، ورغم ذلك شرع منليك ومن أعقبه في حكم أثيوبيا في نهب ثروات بني شنقول، وخاصة الذهب، لاسيَّما أنه وعقب انتهاء عهد الثورة المهدية عقدت المملكة البريطانية معاهدةً مشهورة في العام (1902م) عرفت باتفاقية هارنغتون، والتي قضت بـ(تأجير بريطانيا إقليم بني شنقول لأثيوبيا مقابل (90) كيلو ذهب، تُرسل سنوياً للقصر الملكي البريطاني، على أن تخرج أثيوبيا من الإقليم بمجرد خروج الإنجليز من السودان)، الأمر الذي لم يحدُث حتى الآن نسبة لعدم علم الحكومة السودانية التي وقعت اتفاق استقلال السودان باتفاقية هارنغتون تلك، الأمر الذي شجَّع الملك الأثيوبي حينها ومن خلفه إلى الشروع الفوري في تغيير التركيبة الديمغرافية لسكان إقليم بني شنقول، وترحيل سكانه الأصليين إلى أقاصي الحدود الشرقية والجنوبية الشرقية لإثيوبيا، واستبدالهم بسكان جُدد من كل أقاليم أثيوبيا الأخرى بغرض التأكيد على أثيوبية الإقليم، وفق أكثرية القوميات التي تقطنه، بجانب نهب كل ثرواته واعتماده كإقليم أثيوبي حقيقي وإنفاذ سياساتها فيه وصولاً إلى بناء سد النهضة الحالي في أرض سودانية خالصة.
واحتجاجاً على قيام الحكومة الأثيوبية بمحاولة تغيير التركيبة الديمغرافية للإقليم، حضر مطلع العام (1955م) إلى الخرطوم وفد رفيع المستوى من أعيان بني شنقول برئاسة الأمير محمد نور ابن الملك حمدان أبو شوك ملك قباء، والتقى بالزعيم إسماعيل الأزهري وطرح عليه مُجمل تداعيات قضية الإقليم بني شنقول وأعلموه بالخطوات الكارثية التي شرعت الحكومة الأثيوبية في إنفاذها بالإقليم، وكان رد الأزهري حاسماً (إننا لن نسمح لأي دولة من دول الجوار بأن تحتل شبراً من أراضي السودان، وسنقوم بزيارة الإقليم ونقوم بحسم هذا الأمر عقب الانتهاء من تشكيل الحكومة السودانية)، الأمر الذي لم يتم حتى الآن، وتلك هي القصة الحقيقية لضياع إقليم بني شنقول من السيادة السودانية وصيرورته إقليماً أثيوبياً يحمل مُسمَّى (الإقليم السادس ـ إقليم بني شنقول قُـمُـز).
وتُعد قبائل بنى شنقول الذي تبلغ مساحتة (5) آلاف كيلومتر مربع، أكثر القبائل كثافة بالإقليم، وتمت تسميته باسمها طبقاً للدستور الفيدرالى الإثيوبى الذى ينص على تسمية الأقاليم بأكبر جماعة عرقية فيها، وفي ولاية النيل الأزرق السودانية المتاخمة له فتعرف باسم البرتا، ولعل الكثيرين من السودانيين لا يعرفون معنى كلمة بني شنقول، والتي ليست هي الاسم الأصلى للجماعة، حيث أن الأصل (بلا شنقول) بلهجة قبيلة البرتا والتي تعتبر القبيلة الأصل والأكثر عددية في الإقليم، وتمت إضافة كلمة ـ بني ـ للدلالة على الانتماء إلى العربية والإسلام، ومعنى (بلا) هو الصخرة أو الحجر، و(شنقول) تعني الشكل الدائرى، أو التمائم المستديرة التي يرتديها الأفراد حول أعناقهم، ويرجع الاسم إلى صخرة مقدسة أقام السكان الأصليون حولها، وتشكل الديانة الإسلامية عنصراً ثقافياً مهماً عند البني شنقول، وحيث أن السياسات الحاكمة والسلطة في إثيوبيا ارتبطت على مر العصور بالدين المسيحي وتعاليم الكنيسة، نجد أن جُل سكان بني شنقول يدينون بالإسلام، وأن الزي القومي للبني شنقول هو الزي القومي السوداني، وتُرجِع بعض الروايات أصول قبائل بنى شنقول إلى المجموعات العربية التى هاجرت إلى أقصى منطقة جنوب النيل الأزرق إلى الإقليم الحالي ثم تزاوجوا واختلطوا بالقبائل المحلية، وعُرف جزء منهم باسم الوطاويط، وهي المجموعات التي هاجرت إلى إثيوبيا والمنطقة الحدودية مع السودان لاحقاً مما يؤكد أن أصل قبائل بني شنقول سوداني بحت.
ويقطن الإقليم أكثر من (4) ملايين نسمة، (95%) منهم مسلمون، وما زالت عاداتهم وملامحهم سودانية النزعة رغم محاولات إثيوبيا الدفع بسياسات التغيير الديموغرافي في الإقليم، وحتى بعد ضم إقليم بني شنقول إلى الإمبراطورية الأثيوبية، لم يجد سكانه الترحيب الكافي من السلطات المركزية في أديس أبابا، واعتبرتهم مواطنين من الدرجة الثانية، الأمر الذي دفعهم إلى خوض أول تمرد رسمي على الأحباش في عام 1931م، مطالبين بالعودة للأراضي السودانية وإعطائهم الحكم الذاتي، الأمر الذي قوبل بالرفض التام من الحكومة الأثيوبية.