عبد الحفيظ مريود يكتب : صورة القط في المرآة
حكى إبراهيم منعم منصور، وزير المالية الأسبق، في مذكّراته أنّ المفتش الإنجليزي حين همَّ بمغادرة المنطقة، منقولاً، أسرَّ له، وهو الطالب الشاب – حينها – أنّ هناك الكثير من الشكاوى ضد والده، ناظر عموم دار الحَمر في كردفان. لم يكنْ الإنجليزيُ ليكشف – حسب الرواية – لطالب أسرار الكبار، إلا لأنّه أرادَ أنْ يثبتَ للطالب المتطلع، أنّ قومه – السودانيين – أسوأ بأضعاف المرات من الإنجليز، الذين يراهم المثقّفُ الصغير، متغوّلين على سلطات ليست لهم.
قال إبراهيم منعم منصور، حين وقعت عيناه على الشكاوى، إنّه ذُهِلَ من القربَى التي تجمع بينهم وبين والده الناظر. بعضُهم كانوا أصدقاء والده. يتناولون وجباتٍ معاً، في أيام كثيرة، يحتسون الشاي، يتسامرون، يحلحلُ كثيراً من مشكلاتهم. لكنَّ ذلك لم يمنعهم من الغدر به، السيّد الناظر، وتقديم شكاوى ضدّه، ونقل أخباره للخواجة، الحاكم، في تلك المنطقة، نظيرَ مساعداتٍ عينيّة، تجاوزاتٍ، تصديقٍ بأي شئ، وأحياناً، طمعاً في ترقية، شياخة، عمودية، وكالة ناظر، أو حتّى ناظر عموم دار حَمر. فالطُّموح حين يستحكم، ولا يجدُ له آليّات سالكة، يتوسّلُ الطمع، إنْ لم يكن الطمعُ رفيقَه منذ البداية. والطّمع لا يعرف الوازع، ولجامات التقوى.
الخواجة شرح للطالب الصغير المثقّف، أن السودان لن ينصلح. كان ذلك قبل سبعين عاماً، في أحسن تقدير. وجهة نظره، أن ليس بينكم – داخل القبيلة الواحدة، دعْك من المنطقة المُتعدِّدة القبائل – مَنْ يقبلُ بالآخر، متفوِّقاً عليه، في أي شئ. طالما “جميعنا أبناءُ مشلّخات”. في ذلك الوقت.
تدبّر ابراهيم منعم منصور في الحادثة والحوار البعيد ذاك. أخذه وأسقطه على تجاربه، فيما بعد، وهو وزير للمالية، أو متحرّك في الهمّ العام. كادَ يجعله حكماً نهائيّاً على مطلق السودانيين. وهو وإنْ كان بعيداً، لكنه ليس بعيداً جداً. فليس هناك ما يكذبُه، في التاريخ الاجتماعي والسياسي، ولا في الواقع الراهن. حتّى أن للبروف عبد الله الطيّب مقولة، بأنّ سبعاً من أصل تسع قبائل في الجزيرة العربية مشهورة بالحسد، هاجرت إلى السُّودان. ولكنّه – كمهاجرٍ عربي – لم يهتم كثيراً بدراسة واختبار الحسد في القبائل “الأصيلة”، التي لم تأتِ مهاجرة من مكان، ولو فعلَ، لوجدَ الحسد عند هؤلاء أكثر من غيرهم من المهاجرين.
ليس هناك من ميزةٍ في نبش الصفات السلبية للسودانيين. أو إلقاء المزيد من الضوء على “الجهاتِ العدميّة” عندهم، كما يسميها الإمام الخميني. لكنّها تساعدُ كثيراً في تفسير السلوك الاجتماعي، السياسي، الثقافيّ ..الخ للسودانيين. إذ لا تبدو الظّواهر كما هي، بحيثياتها المعروفة المصرّح بها. في غالب الأحوال تكون بواعثها أن أشخاصاً ما، على شاكلة أولئك الذين كانوا يتناولون الطعام ويتضاحكون مع ناظر عموم دار حَمر، طمعاً في مكاسب منه، وتقرُّباً إليه، وفي ذات الوقتِ يغافلونه ويقدِّمون الشكاوى ويلفّقون المناقص عنه، إلى المفتش الإنجليزي، حسداً وطمعاً.
الذين يقرأون التاريخ السوداني، يعرفون أن قبيلة الزغاوة لم تدخل تحت سلطان الفور إلاّ بعد لأيٍ. حاربتِ الفور حرباً لا هوادةَ فيها. ومثلَها فعلت قبيلةُ المساليتْ، وأخريات. استنكافاً من أنْ يكونوا رعايا لسطان الفور. ولم يجُس السُّلطان تيراب كردفان ونهر النيل وأمدرمان إلاّ مطارداً لشقيقه وأبناء عمومته الذين كانوا يُنازعونه السلطنة. ومثل ذلك جرى بأكثر مما نظنُّ فيما يخص السلطنة الزّرقاء، ومكايد بقية القبائل للعبدلاب. وأكثر مَن نكلَ بهم الخليفة عبد الله التعايشي كانوا الرزيقات، أكثر من أيّ قبيلة أخرى. ولم تكن مشكلةُ الرِّزيقات معه، إلا أنه ينتمي لقبيلة أقلَّ منهم شأواً، بحسب نظرتهم.
لو سألتَ معارضي الحكومة الانتقالية اليوم، ستكون بواعث أهل ابراهيم منعم منصور هي المُحرِّك الرئيسي. بمثلما كانت بواعث معارضي الإنقاذ. شحُّ النفس الذي لا يلجمه إلا مَنْ مَنَّ اللهُ عليه بعزيمة وإرادة وتقوى ويقين.