كان عامل يعمل مع والدي عليه رحمة الله (بالجزارة)، كان شديد البخل على نفسه، وحتى على الكلاب التي تحوم حول الجزارة. اتّخذ البخل فيه تجليات عديدة، ضمنها أنه يسير حافياً كي لا يبلى الحذاء، وحدث أن صادفه نثار زجاج وهو حافي القدمين أصابه بجرحٍ عميقٍ في بطن قدمه اليمنى، فذهبنا به للمستشفى وبعد خياطة الجرح بالبنج الموضعي، قال لوالدي (ما الحمد لله يا محمد خير ما كنت لابس الجزمة).
أحالني هذا العامل لسير البخلاء الذين وردوا في حكاوي الجاحظ وما ورد في المُستظرف، فقد قيل إنّ بخلاء العرب أربعة. الحُطيئة الذي عُرف بالهجاء وحميد الأرقط وأبو الأسود الدؤلي وخالد بن صفوان، كما قيل أيضاً إنّ أبا الطيب المتنبي كان بخيلاً جداً. أما الحُطيئة فقد مَرّ به رجلٌ وهو على باب داره وبيده عصا فقال الرجل للحُطيئة: أنا ضيف. فقام الحُطيئة بمصافحة العصا؟
أما حميد الأرقط فقد كان هجاءً للضيفان فحاشاً بهم، قيل نزل به مرة ضيفان فأطعمها تمراً ثم هجاهما، وجاء في هجائه أنهما أكلا التمر بنواه. أما خالد بن صفوان، فقد كان يقول للدرهم إذا دخل عليه: يا عيّار كم تعير، وكم تطوف وكم تطير، أقسم بالله لأطيلن حبسك ثم يطرحه في الصندوق ويقفل عليه، وقيل له لِمَ لا تنفق ومالك عريض؟ فقال لكن الدهر أعرض.
وهناك أهل بلاد موصوفون بالبُخل، يقال من عاداتهم إذا ترافقوا على سفر أن يشتري كل منهم قطعة لحم ويشكها في خيط ويجمعون اللحم كله في قدر ويمسك كل واحدٍ طرف خيطه، فإذا استوى اللحم جر كل منهم وأكل لحمه ثم تقاسموا المرق!!
قيل لبخيلٍ، مَن أشجع الناس في نظرك؟ فقال: مَن سمع وقع أضراس الناس على طعامه ولم تنشق مرارته.
وقال شاعر يصف بخيلاً، قيل إنه من شدة البخل إذا رأى ضيفاً في المنام بات عامه ساهراً:
نوالك دونه شوك القتاد
وخُبزك كالثريا في البُعاد
فلو أبصرت ضيفاً في منام
لحرّمت الرقاد إلى المعاد
وقال شاعرٌ آخر يصف قوماً بأنّهم من شدة البخل يَعيشون في ديارهم حياةً سريةً بحيث لا يلفتون النظر لأيِّ شيءٍ يُمكن أن يدل ضَيفاً عليهم، قال الشاعر:
تَراهم خشية الأضياف خرساً يُقيمون الصلاة بلا أذان.
ومن نوادر ما قيل عن البخيل حين يعطي مُخالفاً طبيعته، إنّ بخيلاً أعطى قطعة خُبز ناشف لسائل ذات يومٍ فذاع الأمر وعَمّ البلاد وبلغ كل الناس حتى وصل لأذن الشاعر الذي قال:
لا تعجبن لخُبز ذلّ من يده
فالكوكب النحس يسقي الأرض أحياناً
وقال رجل يحكي عن سهل بن هرر المعروف بالبخل، قال كُنّا عنده ولم نبرحه حتى جَاعَ واضطر أن يُنادي غلامه ليأتي بالغداء حين كاد يموت من الجُوع، فأتى الغلام بإناء فيه ديكٌ مطبوخٌ. فتأمّل سهل الديك فرآه بغير رأس، فقال لغلامه وأين الرأس؟ فأجابه الغلام رميته، فقال سَهلٌ إنّي أكره أن يرمى برجله فكيف برأسه؟ ويحك يا غلام أما سمعت بأنّ الرأس رئيس الأعضاء، ومنه يصيح الديك، أما سمعت أن عينه يضرب بها المثل فيُقال شراب كعين الديك، ودماغه شفاءٌ لوجع الكلية، ولم تر عظماً أهش تحت الأسنان من عظم رأسه؟ وهُنا أعرف الغلام بأنّه قد أكله فكاد أن يفتح بطن الغلام ليأتي برأس الديك لو لا تدخُّل الضيفان!.