رحلا عن الدنيا في ذات اليوم.. مصطفى ومحمود.. المصير المشترك!!
كتب: سراج الدين مصطفى
(1)
تمر اليوم الذكرى الرابعة والعشرون على وفاة الفنان مصطفى سيد أحمد الذي رحل يوم 17/1/1996، وبعد سبعة عشر عاماً من رحيله الفاجع رحل في ذات التاريخ فنان الشباب محمود عبد العزيز الذي رحل عن دنيانا يوم 17/1/2013، وتشابه تواريخ الرحيل رغم أنه صدفة قدرية ولكنه يحمل في طياته الكثير من الإشارات التي تجمع ما بين (مصطفى ومحمود) وكلاهما كان صاحب تجربة أثرت في وجدان الشعب السوداني، حيث حفر مصطفى سيدأحمد بطريقة مغايرة وجديدة في الأغنية السودانية، وكذلك محمود عبد العزيز الذي حفر باتجاه مغاير حتى غير المقولات السائدة من (الغنا سمح في خشم سيدو) إلى (سمح الغنا في خشم محمود).. ومن البديهي أن لا تمر ذكرى رحيلهما مروراً عابراً أو عارضاً.
(2)
في عام 96 أفاق الناس على صوت الناعي، وهو يعلن نبأ رحيل «مصطفى سيد أحمد» (ود المقبول)، الذي عانى كثيراً من عذابات المرض.. وجراحات الغربة.. ومآسي التشريد، ولكنه ظل يغني حتى أنفاسه الأخيرة لجراحات وعذابات ومآسي شعبه.. حيث يقول الصحفي محمد إبراهيم: (مصطفى الذي عانى كثيراً وأرهقت جسده أمصال الأطباء لم يفقد يوماً عزمه في ترسيخ دعائم مشروعه الفني الإنساني.. كأنما كان يجسد مقولة (هاكم شتتوني بذار) في كل حياته وإحساسه بالآخرين.. ظل يغني حتى أنفاسه الأخيرة رغم نصائح المقربين إليه والأطباء بأن يخلد إلى الراحة.. ولكن لالتزامه الصارم تجاه فنه ومعجبيه كان يرفض الإذعان لكل تلك الرجاءات.. وظل رغم جراحات الغربة والنفي والبعد عن الأهل يبحث عن تدعيم مشروعه الغنائي المتكامل كأنه كان على يقين من قرب أوان الرحيل… فمضى غير آبه بكل السياط التي كانت تلهب جسده الواهن من تكاثر المرض واشتداده عليه.
(3)
أما «محمود عبد العزيز»، فهو نجل المعاناة.. والوريث الشرعي لكيفية أن ينحت المبدع على صخر الظروف والواقع المر والمأزوم.. كثير ممن يدعون الآن حبهم الجارف لـ»محمود» حاربوه في بداياته.. اعتبروه مشوهاً للفن السوداني وأطلقوا عليه من النعوت والصفات ما كان كفيلاً بتحطيم مراس أكثر الناس صلابة.. ولكن إيمان «محمود» بأن جسده النحيل قادر على صنع المعجزات، كان زاداً له في مسيرته الفنية التي تأرجحت ما بين الشهد والدموع وغلب عليها تتابع مآسيه الخاصة والعامة..
صمد «محمود» كثيراً في وجه الأنواء التي كانت تهدف إلى تحطيم مجاديفه.. لا أحد لديه الفضل في أن يصير (الحوت) إيقونة الشباب وأكثر المطربين إثارة للجدل.. لا فضل لأحد على «محمود» إلا قوة شكيمته أن يصبح أسطورة فنية رحلت في 17 يناير2013م.. وتركت خلفها أسراباً من الدموع الساخنات.
(4)
ويضيف محمد إبراهيم قائلاً: (“مصطفى” و”محمود” كلاهما يمثلان حالة من رفض المبدع لمتاريس وضعت في طريقه سواء أكانت من السلطة الحاكمة أو من المجتمع.. ولكن قوة عزم الاثنين هي التي صنعت منهما أسطورتين فنيتين بمقاييس الجماهيرية الغالبة وبمقاييس تأثيرهما القوي على جيليهما.. ولأن كليهما عانى من الظلم استطاعا أن يثبتا أنهما أسطورتان من لحم ودم.. ولهذا لم يكن غريباً أن يتزامن تاريخ رحيلهما.. ويحق للفن السوداني أن يسمي يوم 17 يناير من كل عام يوم الرحيل الأسود على الفن السوداني.
(5)
يقول الشاعر مدني النخلي في ذكرى رحيل مصطفى: “كنت ملازماً لمصطفى أثناء مرضه بالدوحة، لمحت في تصرفاته وسلوكه، طرائق مختلفة السلوك العادي، لقد كان يغني ويترنم بالعود ودمه ينزف لما يعانيه من مرض”، وتشاء الأقدار أن يلتقيا معاً في الموت خارج مضارب الوطن، لكن قبل ذلك تظهر ثمة مصادفة لعلها الأغرب والمتمثلة في القاهرة كمحطة أولى لجأ إليها الراحلان فمصطفى, غادر الخرطوم إلى القاهرة ومكث بين ظهرانيها السنوات ذوات العدد، قبل أن ييمم وجهه شطر الدوحة القطرية، وهناك جادت روحه القلقة، بأنفاسها الأخيرة قبل أن يعود في جوف صندوق خشبي محمولٍ في جوف طائرة شقت السماوات وقطعت الفيافي وتجاوزت البحار “تفوت بلاد وتسيب بلاد” حتى بلغت مقرن النيلين، وهناك سُجِّي جثمان الفنان الثائر للصلاة عليه في معهد الموسيقى والمسرح قبل مواراته الثرى في مسقط رأسه بود سلفاب بأرض الجزيرة الخضراء، في مراسم تشييع جنائزية لم يسبق لها مثيل.