كتب- سراج الدين مصطفى
(1)
ثقافات عديدة وظواهر كثيرة فرضت نفسها واقعاً معاشاً يتنفّسه الناس على اختلاف درجاتهم، بعد أن كانت في أزمنة سابقة حكراً على فئة بعينها، الأمر الذي يجعل منها ظاهرة تتمدّد في الطرقات، وفي كل الأمكنة بلا استثناءٍ. واحدة من تلك الثقافات والظواهر تكاد تحس تزايُدها المُتنامي بصُورةٍ ملحوظةٍ، ففي باحة حدائق السّلام تنتشر ظاهرة تتجسّد من خلال التباري على لعبة الشطرنج في أجواءٍ فيها الكثير من تفاصيل التنافُس الذي يدعمه ويضفي عليه مسحة من الجمال, وجود جمهور غفير يُتابع بشغف مهارة اللاعبين في تحريك القطع وصولاً إلى مبتغى واحد هو موات الملك أو استسلامه بعد سلسلة من الحصار… جلسنا ضمن جوقة المتجمهرين وأفغرنا الفاه مثلهم، تعجباً وإعجاباً. وعقب الجولة خلصنا للحصيلة أدناه:
(2)
بعد الفراغ من المعركة التي انتهت بموت الملك توجّهت الى عمر صالح الفائز بالجولة, فتى غض العمر، وربما هذا يولّد في دواخلك إحساساً بأنه غض التجربة أيضاً، إلا أن ذلك الإحساس سيتلاشى للوهلة الأولى، وأنت تسأله عن لعبة الشطرنج وهو ما حدث لي تماماً، الأمر الذي جعلني أحرص على انتقاء تساؤلاتي بعناية حتى لا أقع في فخ عدم المعرفة التامّة بأبجديات اللعبة وباحترافيتها أيضاً. سألت عمر عن إحساس الفوز، وقبلاً سألته عن علاقته بالشطرنج وفي ذهنيتي تعشعش فرضية الخسائر والجرحى التي تتواجد في كل المعارك التي لم نشهدها، فأفادني بأنّ الشطرنج يُعتبر لعبة اختبار الذكاء، وهو أيضاً اللعبة التي يخلو قاموسها من عبارة الخصم، إذ أنّ اللاعب الآخر فيها يطلق عليه (رسيل) أي الذي يراسلك الأفكار والخُطط والمُتعة، وهذا سر الروح الرياضية العالية التي تظهر عقب الجولة.
(3)
اتّجهت بالحديث الى عبد العزيز الماحي الفتى الثاني والبطل غير المُتوّج في ترتيب معركة الشطرنج التي كنت شاهداً عليها، والذي يبدو عليه ثقته الكبيرة في مقدراته، وهذه تسلّل لي من خلال تحريكه الواثق للقطع حتى إنه يُحرِّك قطعة الشطرنج في الاتجاه الذي لا يتوقّعه غيره. سألته عن أهم مَطلوبات اللعبة فأخبرني بأنّ عمودها الفقري ينبني على التركيز العالي والدقة والخيال الخصب لأجل تحريك اللاعبين في المساحات غير المَرئية وغير المُتوقِّعة، وشىء آخر أهم من الأخريات يتمثل في ضرورة أن يكون اللاعب حاضراً في المكتبات للاطلاع على مراجع اللعبة والوقوف على آخر تقليعات الخُطط من حيث التكتيك التثقيفي. ويختلف عبد العزيز مع عمر من حيث أصل اللعبة وتسميتها، مُعتبراً أن جذورها تعود الى بلاد فارس، حيث أنّ أصل كلمة شطرنج فارسية معربة عن (شدرنج) وهي الفرضية الأكثر رواجاً.
(4)
دهشتني طريقة تفكير ومرافعة عبد العزير الى الحد الذي جعلني أتبنى خطاً أقرب الى أن أتخيّر موقعي في منصة الدفاع عن اللعبة وأصلها، ولفتت انتباهي الى كثيرٍ من الألعاب التي ظهرت في عصور سابقة، ونالت حظها من الشُّيوع وأصبحت معالم رياضية وثقافية معلومة الوجهة والمنشأ، وكذلك معروفة الأصل دون أن يحصل حولها جدالٌ، ودون أن يختلف المُؤرِّخون حول زمان ومكان ظهورها. وقلت لعبد العزيز مثلاً كرة القدم اللعبة الشعبية الأولى في العالم والرياضة التي تسحر خيالات الكثيرين لا يختلف اثنان حول نسبها للإنجليز، فقال: الجدل الذي يحدث حول لعبة الشطرنج يعود إلى أنّ اللعبة ارتبطت بالذكاء الحَاد، ودوّنت تاريخ أمم سابقة في مجال الفكر والحرب، إذ أنّ اللعبة قديماً كانت حكراً على الملوك والأمراء، وكانت تُستخدم في وضع الخُطط للجيوش الغازية، ومن هنا تحرص جهاتٌ عديدةٌ على نسب أصل اللعبة إليها.
(5)
الحديث عن انتشار لعبة الشطرنج بصورة انتهكت خُصُوصيتها في الأزمنة السابقة، الى الدرجة التي تكاد تجدها في دور الجامعات والأماكن الترفيهية، يبقى حدثاً غريباً يعزيه البعض الى انتشار ثقافة العولمة من حيث منظور انتشارها الفكري، بينما يرى آخرون أنّ سياسة السوق الحُر هي من أوجد هذا الانتشار للعبة التي أصبحت تُباع في الطرقات، وبأثمانٍ تبدو زهيدةٍ مُقارنةً مع أسعارها في السنوات القليلة الفائتة. وهي الفرضية التي حَاصرتني في موقف جاكسون حين التقيت بأحد الباعة الذين يعرضون بضاعتهم في الطرقات بعد أن رأيت (رقعة الشطرنج) ملقاة بإهمال غير مُتعمِّد وسط المعروضات، سألته عنها فقال لي (ده شطرنج).