محمدمحمدخير يكتب : شَجَن الكتب ومحطات أخرى
علقمٌ يتوسّط حنجرتي كلما تذكّرت مكتبة النهضة وسودان بوك شوب القديمة ومعرض دار التقدم بشارع القصر ومكتبة عبد المنعم بشارع الحرية؛ كانت ذات يوم تاجاً للكتاب وتحوّلت الآن لمغلق لبيع الأخشاب ومواد البناء، تلوح لي مكتبة أم درمان المركزية ودار الجيل والدار السودانية والكشك الذي كان يتوسَّط خاصرة أم درمان (دار الآداب)، يُديره رجلٌ يلبس العَرّاقي البلدي ويبيع لك سهيل إدريس. وأنا استكن بوجع الكتب أرى أمامي مجذوب عيدروس من رابطة الجزيرة يجالس نبيل غالي من رابطة سنار، كانا مُشرقين وقتئذٍ، ألمح الآن فيهما كل ما يدلّ على الرهق والأنين الموجوع، جلست أمامي الندوة الأدبية في حضرة صاحبها عبد الله حامد الأمين، وتوالى شريط أباداماك والجندول وأصدقاء الكتاب. أين هذه الجمعية التي كان يترأسها مولانا دفع الله الرضي ويُعاونه القاضي يوسف عربي؟ كانت قبلة الصفوة ونخبة النخب، وفجأةً حلَّ بي عمي يونس الدسوقي شيخ كان قبل وفاته يقيم بفندق صغير بوسط القاهرة يتحسَّر على بلد كان له فيه تذكارات وأحباب، ومكتبة تحمل اسم قارَّة يشدّك للماضي ويستخرج لك منه ما تخبَّأ، كأن الجمال في السودان لم يكن إلا في ماضيه؛ عمي يونس.. الحكّاء.. القصّاص.. السلس.. العذوب.. النضر الأريب.. العبق المُستطاب الراوي لأعذب السير، والشديد الحذر من الضوء. عمي يونس عينة لأصحاب المكتبات في بلادنا قبل أن تحرق الأيام الماحلة أطنان الضوء الذي أضاء أفق مثقفينا وأسلمهم الوعي للفقر والعذاب، وانتهى بهم للجنون والمنافي، حقاً لم أرَ الظلام في أيِّ مكانٍ سعيداً إلى هذه الدرجة وأنا أُحصي مكتباتنا في أيامٍ خَلَت. تذكّرت أنّ والدي – عليه رحمة الله – بعثني لتنقاسي لأجمع له نصيبه من محصول التمر عام 74، وعندما قفلت راجعاً للخرطوم تأخّر موعد القطار فرحت أتجوّل بمحطة السكة حديد بكريمة، ولَفَت نظري وجود مكتبة اشتريت منها ديواناً لبرتولد بريخت ورواية لبلزاك فتأمّل؛ شعر لبريخت يباع في كريمة وليس شعراً لود الزومة أو كدكي، شعر يقول:
من المباهج ما لا تَثِب
من الجلود ما لم يُخدَش
من القَصف ما لا يُفهَم
من الاقتراحات ما لا غِنَى عنه