قابلتُ لقمان أحمد أوّل مرّةٍ، في نيويورك عام 2009م. كنّا – خضر الفحّام وأنا – نقوم بتغطية زيارة نائب الرئيس، علي عثمان محمّد طه، للأمم المتّحدّة، مترئساً وفد السُّودان. كان الوقتُ رمضان. والجوّ صائفاً. لقمان تردّد على سفارة السُّودان ليجري حواراً مع نائب الرئيس لصالح بي. بي. سي. وحين ظفر بالحوار، وخرج النائب والسفير، تثاقل عليه سكرتير علي عثمان الخاص، ورئيس حرسه. كانا يظنّان أنّ لقمان وجّه سوالاً خاطئاً فحواه “أنّكم – حكومة الإنقاذ – تتحمّلون مسؤولة الدّماء التي سالت في دارفور”. ولم يجدوا بدّاً من إتلاف شريطيْ الكاميرا. حين عاد لقمان إلى مكتبه ليتأكّد من المادة، قبل إرسالها، وجد أنّهما قد قاما بسحب “الشريط” الدّاخلي، الذي يحوي الصورة والصّوت، وأعطياه مجرّد أغطية.
طلب السفير – عبد المحمود عبد الحليم – عودتنا إلى السّفارة، بعد منتصف الليل، بالكاميرا ومُلحقاتها. كان هناك نائب الرئيس والسفير ولقمان. أعاد لقمان أحمد الحوار من جديد. بذات الأسئلة وذات الإجابات. حين انفردتُ بخضر الفحّام – أحد كنوز السُّودان المجهولة – أخبرني أنَّ لقمان أخبره بأنّه كان في مقدوره أنْ يحرِّر محضراً يجرجر الشخصين، والسّفارة. وكان بإمكانه أنْ يرسل رسالة نصّيةً إلى رئاسة بي. بي. سي. يخبرها بما فعله أشخاص قريبون من نائب رئيس السُّودان. لكنّه لم يردْ أنْ يزيد النّار حطباً على بلاده. لن يفعل ما من شأنه أنْ يُدخل السُّودان في متاهةٍ جديدة. كنتُ – ولا زلتُ – على يقينٍ بأنّ الحمقى وحدهم مَنْ لا يُفرِّقون بين الشعرات الرّفيعة بين الخاص والعام. لقمان لم يكنْ يعرفني. وأظّنه لا يزال لا يعرفني. فلم نلتقِ إلّا تلك المرّة، ومرّةً بمكتبه، برئاسة الهيئة، في اجتماعٍ صغير، متعجّل. كما أنّني لا أعرفه إلّا كشخصيّة عامّة. لكنّه من خلال الحادثة تلك، رسم في ذهني صورة رجلٍ يُفرِّق بين الأبيض والأسود.
قطعاً ليس في نيّتي أنْ أعود إلى التلفزيون القومي، بأي شكلٍ من الأشكال، ولو تمّ تعييني مديراً للهيئة. وليس ثمّة مصالح لي مع الرّجل. كنتُ متعاقداً مع التلفزيون القومي عشرة أعوام. حين أنهى وزير الإعلام، عبد الله علي مسار، عقوداتنا. الطيّب المكابرابي، المكتفي بالله سرور وأنا. لم أشتكِ مسار، وزير الإعلام لأي جهة. ولم أشتكِ التلفزيون لأنّه أنهى التعاقد دون إنذار. أو لأنّه لم يُكلِّف نفسه النّظر في حقوقنا، دعْك عن أنْ يعطينا إيّاها. وقد شكاه الكثيرون و”قلعوا” حقوقهم من عينيه، حتّى لقد حفيتْ أقدامُ مستشاريه القانونيين من المساسقة إلى المحاكم. قناعتي – وهي تثبتُ يوماً عن يومٍ جدارتها – أنّ المُؤسّسات والأشخاص يمنحوننا أكثر مما يأخذون منّا. ثمّة دائماً أفقاً جديداً.
لكنّني لا ألزمُ أحداً بذلك. أؤمنُ بحقوق الآخرين في سلوك طرقهم لنيل حقوقهم. الزميل الوليد مصطفى، والإخوة المفصولون من الهيئة بقرار إزالة التمكين، رأوا في شكوى لقمان إلى مدير هيئة الإذاعة البريطانية، سبيلاً لردّ المظلمة. كنتُ، فقط، اسأل: “هل يملك مدير هيئة الإذاعة البريطانية أنْ ينصف المفصولين؟”. بعيداً عن الكلام العاطفي والرومانسية. يعرف الوليد مصطفى أنّ قرارات إزالة التمكين قراراتٍ سياسيّة. لا علاقة لها بمهنية الشّخص المعني إزالته، ولا علاقة لها بقوانين العمل، ولا علاقة لها بأي شئ سوى دوافعها وتأثيرها ورسائلها السياسيّة. ولا يحتاج الوليد أنْ أذكِّره بأنّ الجميع فعل ذلك، وحكومة الإنقاذ أخذت نصيب الأسد في الفعل القبيح هذا. لا اعترض إنْ قام المفصولون – وبينهم مساكين لا علاقة لهم بالإنقاذ والتمكين – برفع شكوى إلى من هو أعلى في سلسلة الحكومة، الرشيد سعيد، فيصل محمّد صالح، حمدوك، البرهان، وغيرهم. أنْ يرفعوا شكواهم لكلِّ تنظيمات الصّحافة والإعلام في الإقليم وغيره. لكنّ شكواهم إلى مدير هيئة الإذاعة البريطانية لغوٌ وعبثٌ وأطماس بصيرة. إلاّ إذا كان الغرض هو فصلُ لقمان من بي. بي. سي.
ذلك فصلٌ سياسي. تعسفي. لا علاج له. سيأخذُ وقته، ضحاياه، ويمضي في حال سبيله. وسيكون المستقبل مشرقاً بالنّسبة للمفصولين، كلّ المفصولين، تعسفيّاً وغير تعسفي. بسبب إزالة التمكين، أو بسببٍ آخر، يشبه التمكين. والله هو الوليُّ المكينُ.